لم يكن 14 شباط هذا العام شبيهاً تماماً بالمحطات السنوية التي سبقته.
فبعيداً عن البروباغاندا والبروباغاندا المضادة حول الحشد، وهو في أحسن الأحوال أقلّ مما كان عليه في السنوات السابقة، وأكثر مما يفترض به أن يكون بعد التطوّرات السياسية الأخيرة وبعد شعور كثر بانتفاء معنى الاستنفار الشعبي طالما أن الدينامية التوافقية داخل النادي السياسي هي الحاكمة... وبعيداً عن الشعارات التعبوية والتحذيرية، أو تلك المستخفّة بما جرى وكأنه مسألة عابرة لا دلالات لها، يمكن لمراقب أن يسجّل عدداً من الملاحظات السياسية.
مثّل 14 شباط 2010 استعادة لبعض معاني انتخابات 2009 معطوفة على ما تلاها من تراجع.
- فهو أكّد مرة جديدة القدرة التعبوية الكبيرة لتيار المستقبل، وهي القدرة التي كانت قد أوصلت سعد الحريري الى زعامة غير مسبوقة في الشارع السني، كرّستها الانتخابات النيابية وأفضت به نتيجتها الى رئاسة الحكومة.
- وهو عاد وظهّر التقدّم الشعبي لمسيحيي 14 آذار، وبخاصة للقوات اللبنانية. لكنه كرّر تبيان تعذّر صرف التقدّم هذا سياسياً في المؤسسات أو تحويله تأثيراً حاسماً في السياق الوطني، تماماً كما جرى بعد الانتخابات الماضية مع البدء بمفاوضات تشكيل الحكومة (حين استعاد ميشال عون سياسياً ما كان قد خسره انتخابياً).
- وهو جسّد القدرة الجنبلاطية على استيعاب الوضع الدرزي وتململه من مستجدّاته السياسية. فلم يكن الحضور من الجبل والشوف وراشيا وحاصبيا كما كان في السنوات الفائتة، رغم أن المشاعر على الأرجح لم تتبدّل. وزيارة جنبلاط ضريح الرئيس الحريري، ثم انتقاله الى الضاحية الجنوبية للقاء السيد نصر الله بيّنا في يوم الحشد نفسه الفارق بين مستويين من التعاطي الجنبلاطي مع المرحلة الراهنة.
- وهو أكّد أن الحضور "المدني" من خارج الماكينات الكبرى انطلاقاً من موقف "الضد" (ضد النظام السوري وحلفائه اللبنانيين – حزب الله والتيار العوني وسواهما) أكثر منه من موقف "المع" (مع قيادات 14 آذار)، استمرّ في سلوك يشبه سلوك الانتخابات الطلابية والنقابية الأخيرة التي كانت تسابق المصالحات وتوزيع المناصب الوزارية (ولو على نحو أكثر خجلاً هذه المرة)...
ترجم 14 شباط 2010 ما يمكن تسميته بالتعبوية العاطفية.
ففي كلّ الظروف التي تلد تجمّعات شعبية ضخمة، تظهر مجموعة عناصر تنسج المشترك بين الناس.
- منها الانفعال الجماعي نتيجة الظروف الولّادة للحشد وما تسبّبت به من آلام ثم صنعته من آمال.
– ومنها الذاكرة المكانية والطقوسية التي يتقاسمها المجتمعون، إذ صارت ساحة الشهداء هوية سياسية لهم وصارت زواياها والمسالك المفضية إليها دروباً يسلكونها سنوياً بطقوس لا تتغيّر: رفع العلم والشعار ووضع الفولار وإشهار رغبة التحدّي والتآخي مع الآلاف من الوافدين، والتلهّف لمشاهدة بحرهم في طور التكوّن ثم الوقوف على صورته مساء للاحتفاء به وبطوفانه.
– ومنها كذلك الشعور بأمان الكثرة. تلك الكثرة التي تمدّ الفرد بالقوة وبرغبة الاستمرار، والتي تعزّز عنده اليقين السياسي وتمنع عنه التردّد أو القلق نتيجة ما يمكن تطارحه من أسئلة حول جدوى التزامه وصوابيّته.
– ومنها أخيراً التمسّك بفكرة متّصلة بالوفاء للدم، برفض نسيان التضحية التي افتدى من خلالها المضحّي الجمعَ المحتشد، بتذكّره وبالانتصار له.
على أن 14 شباط 2010 عبّر في مفارقة سياسية صارخة، بعكس ما يردّده البعض حول كونه إنذاراً شعبياً للأكثرية النيابية لوقف سياسة التنازل، وبعكس نوايا معظم من نزل (وتحديداً أولئك الوافدين متسلّحين "بالضد")، عن تغطية شعبية "لسياسة التنازل" هذه، أو على نحو أدقّ، لما تمّ منها حتى الآن، ولو على نحو غير مباشر.
ف14 شباط 2010 قطع سياسياً مع ما سبقه في ما خصّ التعبئة ضد النظام السوري، واستبدل ذلك بالحديث عن العلاقات الندّية والاحترام المتبادل والالتفاف حول رئيس الحكومة الداخل الى المصالحات مع دمشق من "النافذة السعودية". وهذا كان متوَقَّعاً. كما أنه قطع سياسياً مع "أقلمة" النزاع اللبناني، بذريعة المعادلات العربية الجديدة، جاعلاً مسألة بحجم مسألة سلاح حزب الله داخلية لبنانية يتحمّل الحزب مسؤوليتها، وهو المتلحّف في شأنها بثلث ضامن يقيه من أي تصويت حاسم بشأنها.
الأبعد دلالة من كل ذلك، هو أن 14 شباط 2010 أظهر، إن وُضعت المشاعر والحدّة في اختيار التعابير وأساليب الكلام جانباً، أن الفوارق الجوهرية صارت شبه متلاشية بين مواقف الحريري وجنبلاط السياسية. ففتح صفحة جديدة مع نظام دمشق مشترك بينهما، وكذلك مسار التسوية الداخلية، ولو بنكهتين، واحدة "عروبية" تبتعد عن "القُطرية" وبعض متطلّباتها والثانية "لبنانية أولاً" تصرّ على البقاء في تواصل مع شركاء مسيحيين.
وكل هذا يعني في ما يعنيه أن المرحلة المقبلة ستكون من جديد مرحلة ستاتوكو داخلية بانتظار التطورات الخارجية...
زياد ماجد