Thursday, January 5, 2023

ترسيم الحدود اللبنانية-الاسرائيلية: براغماتية حزب الله تجاه الخارج وصرامته تجاه الداخل

وقّع لبنان رسمياً، في 27 أكتوبر 2022 إتفاق ترسيم حدود بحرية مع إسرائيل، برعاية ووساطة أميركية. وإذا كان الاتفاق لم ينهِ الجدال حول قضية الترسيم ككلّ، لتأكيدٍ على حصره بالحقول الغازية من ناحية، ولغياب الترسيم الحدودي البرّي الذي يستكمل الشق البحري من ناحية ثانية، إلّا أنه أسّس لمرحلة جديدة على الحدود اللبنانية الجنوبية. ذلك أن حزب الله باركه بوصفه مكسباً وطنياً للبنانيّين تمّ بفضل "المقاومة"، والحكومة الإسرائيلية السابقة اعتبرته ربحاً لتل أبيب ومصالحها، والإدارة الأميركية ومن خلفها السلطات الفرنسية عدّته منطلقاً للسلام والاستقرار ولازدهار اقتصاد البلدين المعنيّين (وأسواق الطاقة). وكلّ هذا يجعله اتفاقاً يتخطّى في دلالاته وتداعياته السياسية الشأن التقني المرتبط بحقول الغاز والحق في استثمارها شرق المتوسّط.

النص التالي قراءة في المعطيات والملابسات المحيطة بالاتفاق وفي بعض مؤدّياتها، وفي مواقف حزب الله وسائر الأطراف المرتبطة بها.

من التعثّر الى التوقيع 

انطلقت المفاوضات غير المباشرة رسمياً بين لبنان وإسرائيل بوساطة أميركية في 14 أكتوبر 2020. وانعقدت إثر ذلك أربع جولات في مقر الأمم المتحدة في رأس الناقورة، ولم تفضِ حتى أواخر نوفمبر 2020 الى أي نتيجة. الوفد اللبناني طرح بدايةً الخطّ الحدودي 23، في حين طرحت إسرائيل الخط 1، بما عنى خلافاً على 860 كيلومتراً مربّعاً. ثم عدّل اللبنانيون طرحهم في 29 أكتوبر 2020 (إذ استندوا في مطالعتهم الجديدة الى الاتفاقية الدولية للبحار للعام 1982 ومبادئ اتفاقية "بوليه نيوكومب" بين فرنسا وبريطانيا للعام 1923)، وصار الخطّ اللبناني هو الخط 29، الذي يرفع المساحة المُختلف عليها الى 1430 كيلومتراً مربّعاً. الأهم، أن الخط 29 يضمن للبنان حقل قانا بأكمله (حيث يُعتقد بوجود غاز)، ويجعل اللبنانيين شركاء في حقل كاريش (حيث البحث أكّد وجود كمّيات كبيرة من الغاز). من جهته اقترح الوسيط الأميركي السفير جون ديروشر خطاً بين الإثنين عُرف بخطّ هوف، نسبة الى الديبلوماسي الأميركي فريدريك هوف الذي طرح هذا الخط العام 2012 حين حاولت الإدارة الأميركية بلا جدوى التوسّط للوصول الى ترسيم حدودي.

توقّفت المفاوضات بعد ذلك، واستُعيض عنها بلقاءات أميركية لبنانية من ناحية وأميركية إسرائيلية من ناحية ثانية. وبين مارس وأبريل 2021، قدّمت قيادة الجيش اللبناني خرائط مفصّلة للمناطق المتنازع عليها، وأعلنت الحكومة اللبنانية أن الخط 29 هو الخطّ الوحيد الممكن التفاوض عليه.

في 4 مايو 2021 استؤنفت المفاوضات، وضغط الأميركيون للعودة اللبنانية الى الخط 23. تبع ذلك توتّر وتراشق في المواقف، وتباينات داخلية لبنانية على صلة بتشكيلة الوفد المفاوض أحيل خلالها رئيس الوفد العسكري العميد بسام ياسين الى التقاعد. وفي أكتوبر 2021، عيّنت واشنطن وسيطاً أميركياً جديداً هو الديبلوماسي عاموس هوكشتاين الذي زار المنطقة ساعياً لحلحلة الأمور، بالتوازي مع ما سُرّب عن تقدّم في المفاوضات الأميركية الإيرانية حول البرنامج النووي والعقوبات.

لكنّ الأمور ظلّت على مراوحةٍ لأشهر، الى أن أصدر الرئيس اللبناني ميشال عون بعد لقاءات ومشاورات داخلية وخارجية في فبراير 2022 موقفاً مفاجئاً وافق فيه على التراجع عن الخطّ 29 والقبول بالخط 23 كخطّ حدود بحرية مع إسرائيل. أدّى الأمر الى خلافات داخل الوفد اللبناني المفاوض، وصرّح العميد ياسين "أن التراجع عن الخط 29 خيانة عظمى".

وبين مارس وسبتمبر 2022، وعلى وقع الحرب الروسية على أوكرانيا من جهة، وتراجع احتمالات الوصول الى اتفاق أميركي إيراني من جهة ثانية، بدا أن سباقاً يجري بين التوقيع على اتفاق لبناني إسرائيلي وبين التصعيد الذي رافقته تهديدات ومناورات عسكرية إسرائيلية ونشر حزب الله لإحداثيات ترتبط بحقل كاريش وإرساله مسيّرات باتجاهه أسقطتها إسرائيل. 

في أكتوبر 2022، وبعد ضغوط أميركية إضافية ورسالة من هوكشتاين الى المسؤولين اللبنانيين تُنذرهم بتبعات التصعيد مع إسرائيل، وعشية انتخابات إسرائيلية تَحوّل الاتفاق المُحتمل الى مادة مزايدة فيها، وقبيل نهاية ولاية ميشال عون الرئاسية التي شهدت أكبر انهيار اقتصادي ومالي وأسوء ظروف سياسية في تاريخ الجمهورية، وافق لبنان على الاتفاق مع إسرائيل على أساس الخط 23. وجرى التوقيع في 27 أكتوبر، ووفق شروط سنتوقّف عندها في الفقرات التالية.

الخريطة من موقع الجيش اللبناني على الإنترنت

الاتفاق والأحوال اللبنانية والدولية

نصّ الاتفاق[1] المرعيّ أميركياً إذاً، على الخط 23 كخط ترسيم بين البلدين. وهذا يعني تراجع إسرائيل عن الخط 1، وتراجع لبنان (كما سبق وأعلن عون) عن الخط 29، وتعديل أميركا لاقتراحها الذي اشتُهر بخطّ هوف. لكن ذلك عنى أيضاً استفادة إسرائيل بالكامل من حقل كاريش، ودخولها شريكاً في حقل قانا من خلال حصولها على تعهّد بأن تسدِّد لها الشركة الدولية التي ستستخرج الغاز منه نسبة مئوية. وبالفعل، وقّعت تل أبيب (في 15 نوفمبر) عقداً مع شركة توتال الفرنسية وشريكتها الإيطالية اللتين كُلّفتا لبنانياً بالتنقيب عن الغاز في البلوك 9 حيث حقل قانا[2]. ولم ترشح معلومات عن تفاصيل هذا العقد، علماً أن لبنان وإسرائيل كانا قد وافقا في الاتفاق على تكليف الشركة أو الشركات المشغّلة بتقدير النسب المئوية التي ستمنح لكل منهما. 

ومن الضروري التذكير هنا أن الاتفاق اللبناني الإسرائيلي أكّد على أن لا شركة خاضعة لعقوبات دولية يمكن التعاقد معها للتنقيب أو التصدير. والهدف هو بالطبع حظر التعاون اللبناني الإيراني أو اللبناني الروسي، وجعل الشركات المنقّبة غربية أو مستقلة تجاه أي طرف يُعدّ ممالئاً لحزب الله. كما حدّد الاتفاق أميركا وحدها كوسيط أو ميسّر أو مرجع لحلّ الخلافات التي يمكن أن تطرأ خلال التنقيب والاستخراج والتصدير، بما لا يُتيح آليات تحكيم واضحة أو مستندة الى قوانين دولية معمول بها، بل الى ما يمكن لواشنطن أن تقترحه أو تفرضه.

وفي ما هو أبعد من تفاصيل الاتفاق وبنوده، يفيد شرح المعطيات الدولية والإقليمية والداخلية التي دفعت باللبنانيين، وتحديداً بالطرف المقرّر من بينهم، أي حزب الله، للقبول بالاتفاق.

ويمكن هنا الحديث عن ثلاثة مستويات. 

الأول، على صلة بالأوضاع الدولية. فالحرب الروسية على أوكرانيا وتداعياتها الاقتصادية ذات الصلة بالطاقة والعقوبات الأوروبية والأميركية على موسكو، دفعت العواصم الغربية للبحث عن مصادر طاقة جديدة. ولا شكّ أن الحوض المتوسّطي هو الأكثر استراتيجية في هذا البحث لتوفّر الغاز في دوله الجنوبية (مصر وليبيا والجزائر) ولقربه من أوروبا. وكلّ تنقيب مضمون جديد فيه (قبالة إسرائيل وقبرص وربما قبالة لبنان) مسألة حيوية وأولوية غربية.

وإذا كانت إسرائيل جاهزة للتعامل مع هذا الأمر وحضّرت بنية تحتية للاستفادة الاقتصادية منه بأسرع وقت ممكن، فإن حزب الله عدّه فرصة لفرض نفسه كفاعل سياسي في هذه المعادلة، تعترف العواصم الغربية بدوره، وتُضطر إسرائيل الى التعامل غير المباشر معه. وهو قَبِل بالتالي باتّفاق مشروط ومجحف للبنانيّين (الذين قد لا يجدون كمّيات غاز مهمّة في البلوك 9)، ليصبح في قلب معادلة دولية تحرص على استقرارٍ في منطقة قد تصدّر الكثير من الطاقة الى أوروبا.

المستوى الثاني، يرتبط بالأحوال الإقليمية. ذلك أن ما بدا واضحاً عند الإعلان عن توقيع الاتفاق هو التراجع في فرص توقيع اتفاق آخر، أعمق أثراً في أحوال المنطقة والعالم، هو الاتفاق النووي بين إيران والغرب. وما بدا جليّاً في أهداف حزب الله، المُوافَق عليها أو المدفوعٌ إليها إيرانياً، هو الرغبة في إبقاء قنوات الاتصال مفتوحةً مع واشنطن، والتوظيف "الإيجابي" للورقة التفاوضية اللبنانية، عوض التوظيف "السلبي" لها، في مسار تسهيل العودة يوماً الى التفاوض النووي. وقد تكون طهران آثرت تمكين حليفها الإقليمي الأقوى من التحرّك وفق مقتضيات المرونة والمصلحة الأمنية، لتجنّب السياقات الحربية راهناً والمحافظة على قوّته العسكرية للتعامل لاحقاً مع احتمالات التصعيد، إن حدثت.

يُضاف الى ذلك أن التحذير الأميركي المنقول مباشرة الى المسؤولين اللبنانيين لجهة تجنّب الصدام لأن الحرب مع إسرائيل ستكون مدمّرة في وقت يعاني لبنان من انهيار اقتصادي ومالي غير مسبوق، والاستعجال الحكومي الإسرائيلي للتوقيع قبل الانتخابات التشريعية التي يُمكن أن تحمل بنيامين نتانياهو الى الحُكم من جديد وهو المجاهر بمعارضته (ولو ديماغوجياً) للاتفاق، التقطهما حزب الله أيضاً فأعطى الضوء الأخضر للتوقيع لبنانياً.

وهذا يوصلنا الى المستوى الثالث، أي المحلي. فلا شكّ أن توقيت التوقيع قبل خروج عون من قصر بعبدا كان هدية من الحزب الشيعي له ليستطيع الحديث عن "إنجاز" في عهده، بمعزل عن تفاصيل هذا "الإنجاز"، في ظلّ الانحدار المروّع الذي عرفه البلد في السنوات الأخيرة. ولا شكّ أيضاً أن حزب الله يدرك أن حاضنته الاجتماعية تفضّل اتفاقاً يقيها شرور المعارك والخراب والتهجير. وهو فوق ذلك، يستطيع إقناع جزء من الحاضنة إياها ومن الرأي العام اللبناني بفضل سلاحه وتهديداته في "انتزاع" الاتفاق الذي قد يدرّ على لبنان مستقبلاً أموالاً تخفّف من محنته. وليس تفصيلاً أن أمين عام حزب الله وإعلام الحزب وحلفاءه حاولوا تصوير الاتفاق كمكسب فرضه الحزب بالسلاح ("الحامي بالتالي للبنان ومصالحه")[3].

حزب الله البراغماتي خارجياً والمتسلّط داخلياً

يُظهر ما جرى أن الأحوال الدولية والإقليمية والداخلية أملت على حزب الله براغماتية دفعته للقبول بالاتفاق مع إسرائيل. ويُظهر ما جرى أيضاً أن الحزب أرسل الى الداخل اللبناني والخارج على حدّ سواء مجموعة رسائل مفادها أنه المقرِّر والآمر الناهي في مسائل السياسة الخارجية والأمن اللبنانيَّين، وأنه قادر على التطبيع والتكيّف مع الشروط الصعبة وعلى التعامل بواقعية مع المطالب الأميركية والإسرائيلية، وعلى دفع الدولة اللبنانية للتوقيع على ما يراه "مقبولاً"، بعد استعراض سلاحه وادّعاء قدرته على عرقلة التنقيب الإسرائيلي إن بدأ قبل الاتفاق معه. وهو أفاد بذلك أنه مرِن الى الحدود القصوى التي تناسبه خارجياً، تماماً كما هو متسلّط ومتشدّد الى الحدود القصوى داخلياً حيث لا مجال لمعارضته أو للاختلاف معه من دون التعرّض لاتّهامات التخوين والعمالة للخارج، أي للخارج إياه الذي وقّع الحزب الاتفاق معه.

وأمر اللين مع الخارج والتصلّب مع الداخل ليس جديداً في السياق اللبناني. فهو يذكّر بسياسة الرئيس الراحل حافظ الأسد حين إدار شؤون البلد الذي احتلّه جيشه على مدى سنوات طويلة. فالأسد الأب كان يُجيد الازدواجية في ما خصّ الخارج والداخل من ناحية، وكان لا يساوم داخلياً على الأمن والسياسة وعلى العلاقات الخارجية ولا يسمح بشراكة، تاركاً الاقتصاد والمالية ومشاريعهما من ناحية ثانية حقل تنازع مغانم بين جماعاته ومنافسيهم.

يبقى أن نضيف هنا أن توقيع الاتفاق بين لبنان (أو حزب الله) وإسرائيل انعكس انفراجاً معنوياً وارتفاعاً (قد يكون مؤقتّاً في انتظار التطورات المقبلة) على أسعار الأراضي والعقارات في أكثر المناطق اللبنانية الجنوبية وفي كامل الساحل اللبناني الممتدّ من الناقورة حتى الحدود. وهذا يعني أن الانطباع العام القائم في الجنوب هو أن الاتفاق يحول دون احتمالات الحرب أو الصدام العسكري الواسع الناطق لفترة غير قصيرة.

السؤال المطروح في أوساط الخبراء والتقنيّين الآن، بعد التوقيع، هو حول الكمّيات الغازية (والنفطية) الموجودة فعلاً في حقل قانا وحول نوعيّتها ويُسر استخراجها وكلفة هذا الاستخراج والتكرير وسبل تصديرها في ظلّ النقص الفادح في التجهيزات وفي البنية التحتية اللبنانية. وسيلي ذلك سؤال حول أشكال التعامل مع شركة توتال وشركائها ومع إسرائيل نفسها ثم مع قبرص التي لا تبعد حقولها كثيراً، والتي سبق وأنجزت اتفاقات مع إسرائيل. كما هناك الحدود البحرية مع سوريا التي يُفترض الاتفاق عليها، وهي تخصّ قبرص أيضاً، وهناك مشاريع التعاون التي تدعو لها مصر وتهدف الى خلق منظومة إقليمية للتنسيق، يُتوقّع أن تكون إسرائيل جزءاً منها. فما الذي سيفعله لبنان مستقبلاً؟ وإن تبيّن وجود كمّيات من الغاز يمكن تصديرها، كيف ستُدار العوائد ومن سيديرها؟ وكيف يمكن مراقبة كلّ ذلك في بلد أفلسه الفساد، وليست الطبقة السياسية التي تعدّ العدّة للإشراف على العائدات الجديدة سوى نفسها المتّهمة بهذا الفساد وبسوء الإدارة؟

لن يُجاب على الأسئلة المطروحة قريباً. فعمليات البحث والتنقيب ثم الاستخراج والتصدير إن حصلت تتطلّب سنيناً. والأزمة اللبنانية العميقة ستستمرّ خلالها إذ لا آفاق حلول أو تغييرات اقتصادية وسياسية ظاهرة في القادم من الأيام...

زياد ماجد
نص منشور في مجلة الدراسات الفلسطينية، العدد 133، شتاء 2023

[1] لقراءة نص الاتفاق الأصلي بالانكليزية، يمكن مراجعة الرابط التالي المنشور في يومية "لوريان توداي" اللبنانية في 12 أكتوبر 2022: https://today.lorientlejour.com/article/1314354/maritime-border-the-complete-text-of-the-agreement-between-lebanon-and-israel.html

[2] للمزيد من المعلومات عن الاتفاق بين الإسرائيليين وشركة توتال وشريكتها، يمكن الاطّلاع على الخبر المنشور في صحيفة "لوموند" الفرنسية في 15 نوفمبر 2022: https://www.lemonde.fr/energies/article/2022/11/15/totalenergies-et-eni-signent-un-accord-cadre-avec-israel-sur-le-champ-gazier-partage-avec-le-liban_6149923_1653054.html

[3] تصريح الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله في 29 أكتوبر 2022 على هذا الرابط: https://video.moqawama.org/details.php?cid=1&linkid=2522