Sunday, April 18, 2021

الفقدان اللبناني الذي يشبه الهزيمة

رحل قبل أيام عن دنيانا العلاّمة السيّد محمد حسن الأمين، قاضي الشرع الجعفري، الأديب والشاعر والمثقّف، الذي جسّدت سيرته سيرة كفاح فكريّ واجتماعي وسياسي لبناني وعربيّ امتدّ على مدى نصف قرن.

فمن النجف في العراق حيث أقام شاباً وحصّل علومه الدينية واللغوية، الى لبنان حيث واكب بعد عودته الغليان السياسي في الجنوب وفي بيروت عشية الحرب الاهلية وانحاز الى الإصلاح والتغيير وإحقاق العدالة الاجتماعية وناصر العمل الفدائي الفلسطيني ثم المقاومة الوطنية بعد الاجتياح الاسرائيلي، برز السيد الأمين كرجل دين مُعمّم منخرط في قضايا مجتمعه، فاعلٍ فيها، لا غبارَ على مواقفه ولا تردُّد في اتّخاذها مهما كانت الأثمان والصعاب. ولا شكّ أن تمسّكه باستقلاليّته ونبذه الهوان وضعاه في مواجهة الأمر الواقع الذي تكرّس خلال الحرب وبعدها، فكان لتصريحاته ومحاضراته وإطلالاته على الشأن العام وقعها الخاص بما حفظ له فضاءً من الرحابة والمصداقية ومن القدرة على الإقدام، إن في المسائل الفكرية والحقوقية التي نادى فيها بتحرير العقل وبالمساواة وفصل الدين عن الدولة وتخطّي الطائفية، أو في المسائل السياسية الكبرى التي لم يتوانَ فيها عن رفض الهيمنة والتسلّط الميليشياوي والزبائني ومعهما الخيارات المالية والاقتصادية المفضية الى تعميق الاختلالات الاجتماعية في البلد. ولم يتوانَ السيّد كذلك عن تأييد "انتفاضة الاستقلال" في بيروت العام 2005 ضد الاغتيالات والحكم المخابراتي السوري والمستظلّين به وبسطوة العنف والسلاح.

وإذ اندلعت الثورات العربية العام 2011، انتصر الأمين لها وخصّ من بينها الثورة السورية في ندائه المشترك مع صديقه ورفيقه الراحل السيّد هاني فحص بدعمٍ صريح محرِّماً كل تدخّل عسكري أو قتالٍ يدعم حُكم الاستبداد والقتل الأسدي، مؤكّداً في ذلك من جديد وفاءه لسيرته وانسجامه مع تراث مقارعة الجور والانحياز للمظلوم، بمعزل عن موازين القوى وعن كل اعتبار يسحق الناس وكراماتهم.

بموازاة ذلك، كتب السيّد الأمين في الفقه والأدب، وباحَ صوتُه الدافئ بشِعرٍ بليغ، لوّنت أبياتُه سيرة رجل الدين العامليّ وأغنتها ووسّعت أفقها ومخيّلتها.



موت أفرادٍ بوصفه أفول بلد

على أن رحيل محمد حسن الأمين، إضافة الى ما فيه من فقدان، يذكّر أيضاً بجملة خسارات لبنانية سبقته ووقعت في عقد واحد فغيّبت عدداً من من المشتغلين في الحقلين السياسي والديني من الأكثر رصانة وكفاءة في البلد. ففي العام 2012، توفّي كل من رئيس حركة التجدّد الديمقراطي النائب السابق نسيب لحود وكبير الصحافيين والديبلوماسيين والناشرين اللبنانيين غسان تويني ونقيب المهندسين المدافع عن ذاكرة بيروت العمرانية عاصم سلام. وفي العام 2014، غاب السيّد هاني فحص، رجل الدين والثقافة والموقف السياسي الشجاع، وغاب الكاتب منح الصلح والمحامي حكمت العيد. وغاب بعدهم في العام 2015 المطران غريغوار حداد مؤسس الحركة الاجتماعية وأحد أبرز وجوه الكنيسة التقدمية. وفي العام 2017، توفّي الكاتب والسياسي الألمعي سمير فرنجية، ثم وافت المنية في العام 2018 الأب جوج مسّوح رجل الحوار والتسامح، وتبعه في العام 2019 بطريرك "الاستقلال الثاني" مار نصر الله بطرس صفير والسياسي اليساري نديم عبد الصمد. وفي العام 2020 توفّي أمين عام منظمة العمل الشيوعي محسن ابراهيم، أحد أبرز وجوه الستينات والسبعينات الذي اختار "التقاعد" والصمت من بعدها.

وغاب في الحقبة عينها أيضاً، كما في تلك التي سبقتها، كثيرون ممّن لا يتّسع المجال لذكرهم، موتاً "عادياً" أو اغتيالاً.

وخسارات لبنان هذه لا تبدو سنّة بيولوجية عادية تصيب دورياً الدول والمجتمعات، فتُحال الى السنّ المتقدّمة أو الى الحال الصحيّة للراحلين فحسب. كما أن الفراغ الذي تُحدثه لا يترك فرصة للنقاش حول سُبل ملئه أو التعويض عنه في مجتمع زاخر بالكفاءات وقادر نظريّاً على إنتاج نُخبه وتبديلها. ذلك أن الانهيار العام المريع، وسيادة الرداءة والفساد وانتفاء الشروط التي تتيح تجديد الحياة السياسية وإصلاح المؤسسات الدينية وثقافتها، تُحوّل رحيل أفرادٍ من طينة المذكورين - على تعدّد خلفيّاتهم ومشاربهم ومواقفهم وتناقضها أحياناً – الى فقدان عامٍ لا عزاء له. 

أكثر من ذلك، يبدو موت هؤلاء الأفراد وكأنه موتٌ على جرعات لإرث لبناني ارتبط بجيل أو جيلين. إرث كان فيه للعلم وللثقافة وتحصيلهما لدى السياسيين والصحافيّين وبعض رجال الدين فضائل. وكانت فيه للعصامية والكفاح والجدّية والانفتاح والقدرة على التفاوض والتحاور مواقع ضمن التمثيل السياسي والديبلوماسي وفي وسط الهيئات الدينية والمدنية. وقد حمل المذكورون وسواهم بعضَ ما نجا في الحرب من هذا الإرث، وأبقوا له على هامش حياة كلٌّ في محيطه أو في بيئته أو في اختصاصه، فأطلّوا عبره على الحياة العامة في مراحل متعددة قاوموا فيها الانحدار الى أن رحلوا الواحد تلوَ الآخر.

لذلك، يبدو موتهم اليوم، بعد كلّ ما جرى ويجري، وكأنه هزيمة سياسية لفئات واسعة من الناس، اتّفقت معهم على الخيارات أو اختلفت، في لحظة انحطاط الدولة والمسؤولين عنها وتناهُب ما تبقّى من موازناتها ومواردها السائبة.

ولعلّ في هذا البُعد الجنائزي العام لِموت يُفترض أنه فرديّ خاص ما يُظهّر جانباً من جوانب المأساة اللبنانية المستمرّة، فيجعل الوداع بعد كل دفن وداعاً لفصولٍ من سيرةٍ جماعية، كانت يوماً مبشّرة بوطنٍ حرّ كريم...


زياد ماجد
مقال منشور في ملحق القدس العربي