Sunday, August 23, 2020

عن المحكمة الدولية الخاصة بلبنان وفرصة العدالة الضائعة

ليس بعيداً من الذكرى السابعة للمذبحة الكيماوية التي نفّذها نظام بشار الأسد في غوطة دمشق في 21 آب/أغسطس 2013 وذهب ضحيّتها قرابة ألف وخمس مئة شخص، وظلّت كباقي جرائم النظام بلا عقاب حتى الآن، أصدرت المحكمة الدولية الخاصة بلبنان قبل أيام قرارها في جريمة اغتيال رفيق الحريري وواحد وعشرين مواطناً في بيروت في 14 شباط/فبراير 2005.

وقد تسبّب القرار بخيبة أمل كبيرة لدى معظم الذين اعتبروا المحكمة وعملها بداية لنزع الحصانة التي تمتّع بها القتلة طويلاً في لبنان، حيث لم تتوقّف عمليات الاغتيال السياسي منذ عقود. ورغم أن خمسة عشر سنة تفصلنا عن الجريمة موضوع الحُكم، وأن العديد من الجرائم الشبيهة تلاها في بيروت، وأن حرباً إسرائيلية قتلت أكثر من ألف مدني بعدها، وأن حزب الله اجتاح أحياء العاصمة اللبنانية عسكرياً في 7 أيار/مايو 2008 مُردياً العشرات، وأن انفجاراً مروّعاً أسبابه المعلومة ترتبط بالفساد والإهمال دمّر مرفأ بيروت وعدداً من الأحياء المحيطة به قاتلاً وجارحاً ومشرّداً الآلاف من الناس في مطلع آب/أغسطس الجاري، وأن مقتلةً تستمرّ في سوريا بمشاركة لبنانية منذ سنوات، فإن انتظار الحكم قلّص الزمن وأعاد الى الأذهان مرحلةً صراعية في البلد الصغير وعليه، دفع خلالها كثرٌ ثمن إصرارهم على العدالة وعلى إنشاء المحكمة ذاتها.

ويمكن بالطبع تفهّم الخيبة من القرار ومن اكتفائه بتجريم متّهم واحد، سليم عيّاش العضو في حزب الله، لمشاركته في عملية الاغتيال، واعتباره أن لا قرائن مادية تثبت تورّط قيادة الحزب أو النظام السوري في العملية رغم الإشارة في حيثيّات الحُكم الى الظروف السياسية المحيطة بالاغتيال والقول بدوافع محتملة لنظام الأسد ولحزب الله لتصفية الحريري وحلفائه المعارضين لهما ولهيمنتهما. ويفيد القول هنا إن معظم أسباب الخيبة كما عبّر عنها سياسيّون وإعلاميّون أو ناشطون على مواقع التواصل الاجتماعي لا تستقيم قانونياً. فلا المحكمة في صلاحيّاتها تتّهم أصلاً دولاً أو كيانات، ولا هي منبر يبني قراراته انطلاقاً من تحليل أو تقدير أو معلومات جزئية أو أدلّة غير حاسمة. وحتى لو كانت الجريمة سياسية بامتياز ولا ريب وفق كلّ المعطيات، بما فيها تلك المُفضية الى إدانة عيّاش، بأن مراحل التحضير والتخطيط والتنفيذ وعمليات الرصد والتمويه والتضليل وكلفتها كما كلفة الشاحنة والمتفجّرات تتطلّب إمكانيات دولة أو تنظيم كبير، فإن عدم استجواب المتّهمين وغياب ما يكفي من دلائل ملموسة حول علاقاتهم بمسؤولي حزب الله أو بضبّاط المخابرات السورية أو بتواصلهم معهم عشية الاغتيال، حالا تقنيّاً دون إدانة معظمهم وتوسيع دوائر الاتهام لمسؤوليهم من الأفراد النافذين. وهذا يُسجّل لقضاة المحكمة في المبدأ، ويناقض الصراخ حول المؤامرات والتسييس الذي لم يتوقّف نظاما دمشق وطهران وقادة حزب الله عن إطلاقه.

غير أن هناك أسباباً أُخرى كثيرة تدعو للخيبة والغضب، لا بل للريبة، ليس تجاه الحُكم نفسه بما امتلك صانعوه من حيثيّات، بل تجاه التحقيقات والمحقّقين الدوليّين منذ استقالة المدّعي العام الألماني دتليف ميليس في كانون الأول/ديسمبر 2005 ولغاية إنشاء المحكمة ثم صدور حكمها مؤخرّاً.
ذلك أن الأدلّة الجدّية الوحيدة المعتمدة في الاتهام والإدانة، هي تلك المرتبطة بشبكات الهواتف وبالاتصالات بين أعضائها وبأماكن وجود بعض مستخدميها في الأيام السابقة للاغتيال وخلال تنفيذه. وهذه جميعها تقريباً، سبق لضابط في فرع المعلومات في لبنان هو وسام عيد أن اكتشفها وعمل على تحليلها وأحدث خرقاً كبيراً في التحقيق بعد أقل من عام على الجريمة. وقد دفع عيد بسبب ذلك حياته ثمناً، إذ اغتاله على الأرجح من كشف تورّطهم بالجريمة العام 2008 بعد أن حاولوا قتل زميله سمير شحادة العام 2006 (ثم قتلوا بعده رئيسه وسام الحسن العام 2012). ولا يُفهم بالتالي لماذا لم يُفلح التحقيق الدولي وما خُصّص له من وقت وموازنات وموارد ضخمة في إحداث أيّ خرق إضافي بعد ذلك.

كما أن الكثير من الأسئلة التي يمكن للإجابات عليها أن تساهم في تحديد الهوية السياسية للقتلة والمتواطئين معهم الأرفع شأناً من عيّاش ظلّت مبهمة، وكأن مسؤوليّة المحقّقين على مدى سنوات لم تكن لتقصّي الحقائق حولها وحسمها. فلا أبو عدس ومصيره عُرف عنهما أمرٌ يُشير الى من وظّفه واستخدمه ثم تخلّص منه. ولا أسباب إيصال شريطه المفبرك الى أحد صحافيي قناة الجزيرة وهوية الموصل حُدّدت ليُعرف من الطرف العامل على التضليل وما هي دوافعه. ولا الانتحاري الفعلي اكتُشفت هويّته لتُحدَّد بالتالي ارتباطاته وخلفيّته. ولا أسباب عبث بعض الأجهزة الأمنية الرسمية اللبنانية بمسرح الجريمة وإخفائها أدلّة شُرّحت فأُدين المسؤولون عن توجيهها وأُشير الى تواطئهم المباشر أو غير المباشر مع القتلة وما يعنيه الأمر سياسياً.


بهذا المعنى، يُثير حُكم المحكمة الدولية الناقص والباهت ثلاث قضايا.
الأولى قيميّة، إذ أن المحكمة في مراحل عملها المختلفة كلّفت أكثر من 700 مليون دولار، فلم تأت بجديد جوهري عمّا سبق للشهيد وسام عيد أن اكتشفه بجهاز كمبيوتر وحيد. وهذا مؤشّر على مقدار الفساد الأخلاقي والاستمرار في الانفاق البيروقراطي على مدى 15 عاماً من دون القيام بعمل رصين أبعد من تأكيد ما سبق لفردٍ مغدور أن اكتشفه.
القضية الثانية ذات صلة بمفهوم العدالة نفسه الذي أريد له التسيّد في عمل المحكمة. إذ أن التحقيق لم ينجح أو لم يشأ في حشد ما يكفي من أدلّة لإدانة المسؤولين سياسياً عن تنفيذ الجريمة وليس فقط أحد منفّذيها. وهذا أمر إن صحّ، يفسّر أسباب تنحّي ميليس آخر العام 2005 وما قاله لاحقاً للكاتب والصحفي اللبناني مايكل يونغ من أنه فهم أن لا رغبة لدى الأمين العام للأمم المتحدة وقتها، كوفي أنان، في توسيع التحقيق أو في الوصول الى المسؤولين عن قرار الاغتيال تجنّباً للمزيد من "الاضطرابات". وهو ما التزم به خلف ميليس، المحقّق البلجيكي سيرج براميرتز، إذ عمد الى الاكتفاء بتأكيد بعض المسائل وإثباتها من دون التوسّع في التحقيقات، ممّا سمح للقتلة بطمس المزيد من معالم الجريمة ومعالجة بعض الثغرات والانتقام ممّن اكتشف الخيوط الأولى الموصلة إليهم. وجدير ذكره هنا أن براميرتز حصل على ترقية مهنية بعد مهمّته اللبنانية الضئيلة النجاح.
القضية الثالثة أبعد من مسألة اغتيال الحريري، ومفادها أن ما جرى فوّت فرصة تاريخية لإظهار أن إفلات القتلة في لبنان والمنطقة من العقاب ليس قدراً، وأن بالإمكان تهديدهم والبدء بمحاكمات لا تكتفي بالمجرمين الصغار وأعوانهم بل تطال من أعطاهم الأوامر...

وكل هذا يرتدي بالطبع أهمية مضاعفة اليوم في ظل المطالبات المشروعة بتحقيقات دولية ذات صدقية، إن في لبنان نفسه بعد الانفجار المروّع الذي دمّر مرفأ عاصمته وبعض مناطقها، أو في سوريا حيث لم يسبق أن شهد التاريخ الحديث جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية بهذا القدر، أو في اليمن والعراق وليبيا والسودان، وطبعاً في فلسطين المحتلة. 

زياد ماجد