Sunday, February 10, 2019

في خلفيات الكارثة الفنزويلية ومساراتها الراهنة

تتوالى منذ مطلع هذا العام فصول الأزمة السياسية الفنزويلية، ويبدو المشهد في كاراكاس مقبلاً على تطوّرات يُخشى أن تدخل البلاد معها في صدام أهلي واسع تغذّيه أطراف خارجية. وإذا كان منشأ الأزمة هو تجديد نيكولاس مادورو لولايته الرئاسية في انتخابات قاطعتها المعارضة في أيار/مايو 2018 ولم تعترف بشرعيّتها، فإن انفجارها جاء في 23 كانون الثاني/يناير 2019، حين أعلن رئيس البرلمان خوان غوايدو المعارض لمادورو تولّيه رئاسة البلاد الانتقالية في انتظار تنظيم انتخابات عامة. وقد اعترفت واشنطن مباشرة برئاسة غوايدو، وتبعتها كندا وإسرائيل ومعظم دول أميركا الجنوبية ثم الدول الأوروبية، في حين اصطفّت روسيا والصين الى جانب مادورو، ومثلها فعلت جنوب إفريقيا وإيران وتركيا.

الإرث الشافيزي

على أن أسباب الانقسام الفنزويلي الحاد ووصول الأزمة الى حافة الانفجار الشامل تتخطّى مسألة الانتخابات والرئاسة. فجذورها ارتبطت في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي بتوسّع الانقسامات الاجتماعية وبممارسات النخب السياسية والاقتصادية الحاكمة التي جنت ثروات طائلة وأنشأت كارتيلات واحتكرت القطاعات الاقتصادية الأكثر ربحية، وعلى رأسها القطاع النفطي، كما سيطرت على الإعلام والشرطة ووظّفت الأخيرة في تصفية حسابات بدت مافياويةً أكثر منها مواجهةً للجريمة المنظمّة التي جعلت فنزويلا واحدة من أكثر دول أميركا اللاتينية عنفاً.

وبنى هوغو شافيز في العام 1998 حملته الانتخابية (بعد محاولة انقلاب فاشلة قادها العام 1992 ودخل بعدها السجن لِعامين ثم أسّس حزباً وبرز اسمه) على أساس مواجهة الأوضاع هذه والسعي لتقليص الفقر ومعدّلات البطالة ومكافحة التضخّم والفساد والكارتيلات، ففاز بالرئاسة، وبدا أن الفئات الأقلّ دخلاً صوّتت بكثافة له في معظم أنحاء البلاد. ويمكن القول إن الحكم الشافيزي نجح جزئياً في ولايتيه الأولى (1999-2000) والثانية (التالية لتعديل دستوري، 2000-2006) في تقليص معاناة الشرائح الأشدّ فقراً من خلال مضاعفة الانفاق على قطاعَي الصحة والتعليم واستحداث موازنات دعم إسكاني وغذائي شهري. فتقلّصت تدريجياً نسبة الفقراء من 51 في المئة العام 1997 الى حوالي 33 في المئة العام 2006، وسمح نموّ القطاع العام وتوسّع خدماته بتوظيف عشرات آلاف الفنزويليين، فتراجعت البطالة من 12 الى 9 في المئة في الفترة ذاتها.

بموازاة ذلك، قمع شافيز العديد من معارضيه ومن منظمات المجتمع المدني عبر تشريعات وقوانين حدّت من الحرّيات السياسية والتنظيمية. وردّ على سيطرة خصومه على الإعلام الخاص بتوظيف الإعلام العام للنيل منهم وللترويج لسياساته وبرامجه وللإطلالات الأسبوعية التي خاطب فيها مؤيّديه. كما عسكر جانباً من الحياة العامة من خلال تكريس المظاهر والعروض العسكرية وتعزيز صِلات الضباط الموالين له بالقطاعات الاقتصادية والخدماتية بحجة محاربة الفساد فيها.

وعلى صعيد السياسة الخارجية، اعتمد شافيز مواقف مناهضة لواشنطن واتّهمها بتدبير محاولة انقلابية فاشلة ضدّه العام 2002، ودعم كوبا اقتصادياً وأقام اتفاقات طبية وتعليمية معها، ووثّق التعاون الاقتصادي في منطقة الأنديز (مع بوليفيا والبيرو)، كما حاول في لحظة تقدّم القوى اليسارية انتخابياً في معظم القارة اللاتينية بناء تحالفات واسعة معها، من دون أن ينجح في ذلك نتيجة الأولويات المختلفة للدول المعنية.

وفي العام 2006، وبعد تعديل دستوري على مقاسه أتاح له الترشّح مرّة ثالثة رغم اعتراضات خصومه، فاز شافيز بالانتخابات لولاية جديدة (2006-2012)، وأعلن عزمه تحويل فنزويلا الى "الاشتراكية الثورية". لكن ولايته هذه شهدت تراجعاً كبيراً في أسعار النفط الذي تمثّل إيراداته 90 في المئة من الدخل الفنزويلي الوطني، ممّا انعكس سلباً على برامج حكمه الاجتماعية وعلى الإنفاق العام في البلاد. كما شهدت ولايته الثالثة ارتفاعاً كبيراً في معدّلات التضخّم (بلغ حدود ال28 في المئة العام 2009)، وتراجعت العملة الوطنية "البوليفار" (رغم تعديلات أُدخِلت على قيمتها الشرائية العام 2008) من 2,15 الى 6,3 للدولار الواحد. وأخفق الحكم الشافيزي في تحقيق وعوده بتطوير الصناعة والزراعة الوطنيّتين، الأمر الذي حدّ من فرص التشغيل وأبقى فنزويلا شديدة التبعية للواردات من السلع الاجنبية، بما فيها الأغذية (التي تستورد معظمها من الولايات المتحدة الأميركية شريكها التجاري الأبرز).

رغم ذلك، ترشّح شافيز لولاية رابعة العام 2012، وفاز في انتخابات اتّهمه خصومه بتزويرها، وعيّن وزير خارجيته النقابي السابق نيكولاس مادورو نائباً للرئيس داعياً الى التصويت له في أي انتخابات مبكّرة قد تتسبّب بها وفاته نتيجة مرضه. وهو ما حصل بعد أقل من عام إذ رحل شافيز في آذار/مارس 2013، وانتُخب مادورو رئيساً في نيسان/أبريل بفارق ضئيل جداً عن أبرز منافسيه (حصل على 50,6 في المئة من الأصوات). وأظهرت الانتخابات تراجع الشافيزية وحِدّة الانقسام حول مادورو وتقدّم قوى المعارضة التي أعادت تنظيم معسكرها تحضيراً للمواجهات السياسية المقبلة.


مادورو وانهيار الاقتصاد

بين العامين 2013 و2015، عرفت فنزويلا أزمة إقتصادية حادة. فاستمرار هبوط أسعار النفط أدّى الى تراجع إضافي في ناتجها القومي، وتمسكّ الحكومة بسياسة الانفاق في مشاريع البناء والإسكان ورفعها المتكرّر للأجور في القطاع العام لمواجهة تراجع العملة والتضخّم أدّى الى تقليص إنفاقها الفعلي على قطاعات الزراعة والصناعة والصحة والتعليم، والى تخفيض موازنات الأمن والدفاع. كما أدّى تدنّي احتياطيّ العملات الأجنبية الى فقدان أدوية وبضائع استهلاكية مستوردة من الأسواق. ولم يفلح بدء الاقتراض من الصين وتوقيع عقود استثمار مع شركات روسية في لجم التدهور هذا، الذي دفع بمئات الآلاف من الفنزويليّين من شرائح مختلفة الى نزوحين داخلي وخارجي وأعاد معدّلات الجرائم الى سابق عهدها، وسط تزايد حديث عن الفساد وعن امتيازات "البورجوازية الجديدة" (برجوازية الحزب الشافيزي الحاكم) وعن قمع للمعارضين (اعتُقل بالفعل عدد من قياداتهم في الفترة إياها).

وترجمت الانتخابات التشريعية في العام 2015 تراجع شعبية الحكم المادوري، ونجح ائتلاف موحّد للمعارضة بالفوز بأكثرية مقاعد البرلمان مدخلاً البلاد في مواجهة بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، عمدت فيها الأولى الى الاستعانة بالهيئة العليا للانتخابات الموالية لها لإبطال نيابة ثلاثة معارضين تنزع الأكثرية البرلمانية منهم، فرفضت الثانية الأمر وتمسّكت بسيادتها الدستورية وبالأكثرية البرلمانية القائمة، وتعطّل بالتالي العمل التشريعي.

وابتداء من العام 2015، تحوّلت الأزمة الاقتصادية الى كارثة كبرى لجهة التضخّم (الذي وصل بحسب صندوق النقد الدولي الى حدود ال700 في المئة) وانهيار العملة وتراجع الإنتاج النفطي. وفاقم من الأمر موسم جفاف هو الأقسى خلال أربعين عاماً ألحق أضراراً فادحة في العام 2016 بالزراعة وبالتغذية بالمياه وبمحطّات الطاقة، وأدّى الى انقطاع عام للكهرباء ارتفعت خلاله عمليات السلب المنظّم وأقفلت مستشفيات ومدارس وعجزت السلطات المعنية عن التعامل السريع معه. بهذا، دخلت فنزويلا العام 2017 في حال من الفوضى العارمة والانهيار الاقتصادي الذي دفع بها الى المزيد من الاقتراض من الصين وتوقيع اتفاقات نفط مع روسيا. وقبل أن ينتهي العام، أعلنت الولايات المتحدة الأميركية عن مجموعة عقوبات ضد السلطات في كراكاس وأوقفت كل استثمار جديد في فنزويلا، مفاقمةً من حجم التردّي في أحوالها.

أدّت مجمل التطوّرات المذكورة الى احتدام الصراع بين حُكم مادورو ومعارضيه. فأعلن الأول بناءً على عدم اعترافه بالبرلمان وأكثريّته السياسية وتأييد المحكمة العليا له عزمه على الدعوة الى انتخاب "جمعية تأسيسية" لإعادة صياغة الدستور. وفي مواجهة المتظاهرين المعارضين له نشر الجيش الذي اشتبك مع بعضهم، فاتّسعت خريطة المظاهرات ضدّه ولو أنها ظلّت في المدن الكبرى، لا سيّما في كاراكاس، بعيدة عن الأحياء الشعبية التي لم يتلاش فيها أثر اللجان الشافيزية المؤيّدة له. ومع إجرائه انتخابات "الجمعية التأسيسية" رغم مقاطعة المعارضين ورفضهم الاعتراف بها، اعتبر مادورو أنه بات قادراً على حسم الصراع مع خصومه، فأعلن عن استعداده لمحاورتهم قبل خوض الانتخابات الرئاسية المُفترض إجراؤها منتصف العام 2018.

ولاية مادورو الثانية المرفوضة وانقلاب غوايدو

لم ينجم عن الحوار الوطني الفنزويلي أي تقدّم أو حلّ، وتسارع الانهيار الاقتصادي العام 2018 ومعه انتشار الفوضى وارتفاع معدّلات الجريمة. ووصلت مستويات التضخّم الى أرقام لم يشهد التاريخ مثلها (حوالي 300 ألف في المئة في النصف الأول من السنة) وكذا انهيار النقد (من 9 بوليفار لكل دولار أميركي الى 1400 بوليفار للدولار الواحد). وأدّت هجرة الأطبّاء والممرّضين والمدرّسين خلال عامين الى تدهور إضافي في نوعية الخدمات الصحّية والتعليمية وكمّها، وارتفع معدّل التسرّب المدرسي نتيجة ذلك ونتيجة الخطف والفلتان الأمني، وغادر فنزويلا بين العامين 2017 و2018 الى البلدان المجاورة أكثر من مليوني شخص.

وفي أيار/مايو من العام نفسه، أجرت الحكومة الفنزويلية انتخابات رئاسية جديدة أعلنت المعارضة بكامل قواها مقاطعتها. وفاز مادورو بولاية ثانية وسط مشاركة لم تتخطّ الـ40 في المئة من الناخبين. فوَلجت الأزمة فصلاً جديداً، وتفاقمت حال الإضرابات والتظاهرات، واستمرّ الانهيار الاقتصادي (وصل التضخّم آخر العام الى 800 ألف في المئة)، وغادر مليون فنزويلي إضافي البلاد في بضعة أشهر، ليصبح عدد اللاجئين الفنزويليين الإجمالي قريباً من الـ10 في المئة من تعداد السكّان العام.

في الأيام الأولى من العام 2019، تسارعت التطورات في كاراكاس. فالبرلمان المحكوم من المعارضة وغير المُعترَف به من مادورو ومن المحكمة العليا، انتخب رئيساً جديداً له، خوان غوايدو، من الجيل الشاب غير المرتبط بحقبة الثمانينات والتسعينات وسياسيّيها اليمينيّين الفاسدين والمُجرّبين. وكرّر غوايدو رفض البرلمان الاعتراف بشرعية ولاية مادورو الثانية طالباً منه الدعوة الى انتخابات رئاسية يجري لاحقاً التوافق حولها. فردّ مادورو بعد أسبوع بإدائه القسم الدستوري مُستهلاً رسمياً ولايته الرئاسية الثانية، وواعداً بتنظيم انتخابات تشريعية جديدة لتشكيل "برلمان شرعي". ولم يطل الانتظار قبل أن يعلن غوايدو في 23 كانون الثاني/شباط تولّيه رئاسة البلاد الانتقالية "وفق الدستور الذي يمنح صلاحيّات الرئاسة الشاغرة الى رئيس البرلمان".
رافق ذلك مظاهرات ومظاهرات مضادة واشتباكات بين المتظاهرين والقوى الأمنية. وأعلن قادة الجيش ولاءهم لمادورو، في حين ذكر مراقبون تململ الضباط والجنود وانقسامهم حول الأمر.


 توازن القوى داخلياً في انتظار الجيش وضغوط الخارج

هكذا، انقسم المشهد السياسي الفنزويلي بين رئيسين يملك كلٌّ منهما ذرائع تطعن بشرعية الآخر. وانقسم المجتمع الفنزويلي المنهك بينهما. فبدا الأول على رأس قاعدة شعبية من فقراء تحسّنت أحوالهم في العهد الشافيزي وبيروقراطيين ورجال أعمال اغتنوا لقربهم من السلطة على مدى عقدين من الزمن؛ أما الثاني فتحمله الطبقة الوسطى المنهارة ورجال أعمال الماضي الذين أُبعدوا عن الصفقات. ويقف بين المعسكرين فنزويليين من الطبقات جميعها تسحقهم الأزمة الحالية ويبحث قسم كبير منهم عن المغادرة التي أعاقها بعد تعاظمها إقفال معظم حدود البلاد.

الجيش داخلياً صار إذاً من قد يحسم الأمور. ولا شك أن حسابات قادته كثيرة ومعقّدة وفيها مصالح خاصة ورهانات داخلية وخارجية. أما الخارج، فمنقسم بدوره بين معترف بمادورو وداعم لغوايدو. واشنطن وبرازيليا في الصف الأمامي ضد مادورو (ومن خلفهما أوروبا التي كان على الأرجح يمكنها لعب دور الوسيط عوض الاصطفاف)، وموسكو وبكين في الصف الأول دعماً لمادورو إذ لهما استثمارات بقيمة 17 مليار دولار (في حالة روسيا) وقروض لكاراكاس بقيمة 50 ملياراً (في حالة الصين). ولا يبدو حتى الآن أن حلّ الأزمة قريب، رغم تهديدات كلّ من ترامب وبوتين. فالجميع يراهن على الوقت: مادورو وحلفاؤه لإبقاء الأمر الواقع والتفاوض انطلاقاً منه، وغوايدو لمزيد من الانهيار بما يدفع واشنطن لمضاعفة الضغط، والجيش للتحرّك والأحياء الشعبية للتخلّي عن مادورو... لكن في انتظار واحد من السيناريوهين، يمكن لسيناريو ثالث أن يلد من كوارثية الأوضاع: انقسام الجيش ودخول فنزويلا صراعاً دموياً قد لا يسهل الخروج منه.

زياد ماجد
مقال منشور في الملحق الأسبوعي للقدس العربي