Thursday, January 19, 2017

المسألة السورية بعد حلب

نُشرت هذه الورقة التي تمّ إعدادها في 11 كانون الثاني/يناير 2017 في "مركز الجزيرة للدراسات"، وهي محاولة لقراءة الوقائع والتطوّرات الميدانية والسياسية في سوريا وفي سياق الصراع الإقليمي والدوليّ عليها.


ملخّص تنفيذي

إنتهت في أواخر العام 2016 حقبة من حقبات الصراع في سوريا وعليها. فالتدخّل العسكري الروسي الذي انطلق في 30 سبتمبر 2015 والتعبئة الإيرانية المتعاظمة للمقاتلين الشيعة اللبنانيين والعراقيين والأفغان أثمرت في ديسمبر 2016 اجتياحاً للأحياء الشرقية لمدينة حلب، بعد أن كان الحصار والقصف وغياب الإمداد على مدى سنوات قد خنق جيوب المقاومة العسكرية في أكثر من مدينة وبلدة في محيط العاصمة دمشق، وأنهى تواجد "المعارضة المسلّحة" فيها.
بذلك، أصبحت المدن السورية المتوسّطة والكبرى في جنوب البلاد (باستثناء درعا) وفي وسطها وغربها وشمالها الغربي (باستثناء إدلب) تحت سيطرة النظام وداعميه، وينحصر حضور المعارضة في مناطق ريفية أو في مدن صغرى. ويبقى الشرق السوري ومدينتاه الفراتيّتان الرقة ودير الزور تحت سيطرة "تنظيم الدولة الإسلامية" (الذي تقدّم أيضاً في البادية نحو مدينة تدمر)، في حين تستمر سيطرة الميليشيات الكردية على ثلاث مناطق شمالية وشمالية شرقية، وتتوسّع بينها وعلى حساب مدنٍ صغرى وبلدات عدّة كان يحتلّها "تنظيم الدولة" منطقةٌ جديدة تنتشر فيها المعارضة بدعم تركيّ مباشر.

سياسياً، تبرز ديناميّات مستجدّة مرتبطة بالتنسيق الروسي التركي الداعي الى مؤتمر تفاوض في آستانة في 23 يناير الجاري. ويترافق التنسيق هذا مع تراجعٍ كبير في الحضور الأميركي عشية مغادرة أوباما للبيت الأبيض، واستمرارٍ في العجز الأوروبي والعربي. وتبدو الأمور متّجهةً الى مزيج من التباحث بين موسكو وأنقرة وطهران على تصوّرات لتجميد الأوضاع العسكرية بين المعارضة والنظام وحلفائه في الشمال مؤقّتاً وعزل "جبهة فتح الشام" فيه من جهة، والتصادم الميداني بين المعارضة وحلفاء النظام في محيط العاصمة دمشق (الذي يتقدّم الدور الإيراني والحزب إلهي في محاوره على الدور الروسي) من جهة ثانية. كل ذلك في انتظار دخول دونالد ترامب الى البيت الأبيض واتّضاح بعض معالم سياسته تجاه سوريا، حيث التوفيق بين تقرّبه المحتمل من روسيا وعدائه المرجّح لإيران لن يكون سهلاً عليه وعلى الإيرانيّين بخاصة.

في خضمّ هذه التطوّرات في الميدان وما يرافقها وينجم عنها من ديناميّات سياسية، تبدو المعارضة السورية بمختلف أجسامها وهياكلها مُستضعفةً ومتروكةً لتوازن القوى المتبدّل. والأكثر دلالةً على التراجع العربي الخليجي والتركي والغربي في دعمها، ولَو على نحوٍ مُقنّن كما كان الأمر في السنوات الماضية، هو استمرار إقفال الحدود الأردنية منذ مايو 2016 بما جمّد جبهات الجنوب وأراح النظام فيها، وإقفال القسم الأكبر من الحدود التركية منذ أواسط الصيف المنصرم، بما يسّر على الروس والإيرانيّين معركة شرق حلب. وفاقمت الانقسامات بين القوى المعارِضة المقاتلة من الوهنَ الذي أصابها بعد بدء التدخّل العسكري الروسي، وساهم ذلك في الخسارات الكبيرة التي مُنيت بها في الأشهر الأخيرة.

على هذا، تبدو خيارات المعارضين في الحقبة المقبلة من الصراع محدودة، وقد يكون الأهمّ لبعضهم، لا سيّما الناشطين خارج البلاد، التركيز على قضيّتَي المساءلة القانونية لجرائم الحرب المُرتكبة والحقّ في مقاومة الاحتلالات الأجنبية، والعمل على بلورة خطاب جديد يُبقي "المسألة السورية" حاضرة في المحافل الإعلامية والحقوقية والسياسية الدولية.



مقدّمة

شهد شهرا نوفمبر وديسمبر العام 2016 تطوّرات ميدانية وسياسية ثبّتت استراتيجية موسكو الهادفة بعد إنقاذ النظام عسكرياً بدءاً من 30 سبتمبر 2015 الى فرض واقعٍ جديد تجد المعارضة المسلّحة نفسها مُحاصرةً فيه في جيوب ومناطق لا تواصل ترابيّاً بينها وعُرضةً للقضم التدريجي[1]. وجرى هذا بالترافق مع حملة بروباغاندا روسية نفت وجود "الجيش الحر" والفصائل الإسلامية السورية، وصوّرت المقاتلين على أنهم جميعاً جهاديّين يُبيح التصنيف الأممي لـ"جبهة النصرة" و"تنظيم داعش" كجماعتَين إرهابيّتين ضربهم.

وقد كان للانكفاء الأميركي الكامل منذ شهر أكتوبر 2016 إثر فشل اتفاق كيري-لافروف، وللتراجع العربي الخليجي نتيجة تحوّل حرب اليمن الى حرب استنزاف للسعودية، ولاستمرار الغياب الأوروبي، ثم لتبدّل الأولويات التركية مع انطلاق عملّيات "درع الفرات" الهادفة الى محاربة "تنظيم الدولة" وإضعاف الميليشيات الكردية (ومنعها من السيطرة على كامل الشريط الشمالي والشمالي الشرقي من الحدود التركية السورية)، كان لهذه الأمور جميعها أن أتاحت لروسيا وإيران الاستفراد بمقاتلي المعارضة السورية المسلّحة وبالمدنيّين المحاصرين في بعض المواقع في محيط دمشق (المعضمية بعد داريا) ثم تركيزهما على حلب الشرقية. تزامن الأمر مع تصاعد التوتّرات بين فصائل معارضة وتقاتلِها داخل أحياء حلب المحاصرة[2] وفي بعض بلدات محافظة إدلب[3]، وقبل ذلك داخل الغوطة الشرقية[4] وفي بلدات حورانية[5]، وسط استمرار إقفال الحدود مع الأردن وتجميد الجبهات في محافظة درعا.

وفي منتصف شهر نوفمبر، بدأت قوات النظام مدعومةً بميليشيات "حزب الله" اللبناني و"حركة النجباء" العراقية و"لواء فاطميّون" الأفغاني و"لواء القدس" الفلسطيني السوري (المشكّل من مقاتلي فصائل موالية للأسد) وبإدارة ضبّاط من الحرس الثوري الإيراني هجوماً برّياً على أحياء حلب الشرقية تحت غطاء جوّي روسي كثيف. وبين 16 نوفمبر و9 ديسمبر، نجحت القوّات المهاجمة في السيطرة على معظم هذه الأحياء[6]، وحاصرت المقاتلين المعارضين ومعهم عشرات ألوف المدنيّين (بعد نزوح عشرات الألوف الآخرين نحو الأحياء الغربية والشمالية أو نحو القرى المجاورة) في مربّع صغير. ثم جرى الاتفاق بين الروس والأتراك على السماح لهؤلاء بالخروج ابتداءً من 15 ديسمبر نحو محافظة إدلب أو نحو الريف الحلبي الغربي. وإذ عرقل الإيرانيّون الخروج لإضافة بند يشمل إخلاء جرحى ومدنيّين من بلدتَي الفوعة وكفريّا الشيعيّتين اللتين تحاصرهما المعارضة في ريف إدلب (واللتين يخفّف طيران النظام المروحي من وطأة الحصار عليهما منذ بدئه)، وافق المعارضون على ذلك شرط معاملة جرحى ومدنيّين في الزبداني ومضايا في ريف دمشق بالمثل.

وفي 22 ديسمبر، انتهى خروج آخر المقاتلين المعارضين من حلب، واكتمل نزوح المدنيين. وإذ احتفى مسؤولون أمميّون بالأمر بعد أن صوّت مجلس الأمن في 19 ديسمبر على إرسال مراقبين للتأكّد من سلامة جميع المغادرين، ذكّر باحثون حقوقيّون أن "التهجير القسري" للسكّان المدنيّين الذي تمّ كان جريمة حرب جديدة تضاف الى سجلّ جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية المرتكبة في سوريا[7].

ما عبّرت عنه المأساة الحلبية

تقاطعت في فصول المأساة الحلبية الأخيرة مجموعة عوامل، عبّرت جميعها عن تبدّلات في توازنات القوى داخل سوريا، وعن أحوال سياسية وقيميّة تنطلق من الساحة السورية لتتخطّاها وترسمَ بعض معالم العلاقات الإقليمية والدولية الراهنة.
فمعركة حلب بيّنت حجم التذرّر الذي تعرّضت له المعارضة العسكرية خلال الفترة الأخيرة وغياب التخطيط والتنسيق المركزي لديها، وتمنّع فصائل عديدة عن إشعال جبهات قتال تخفّف الضغط عن حلب، خوفاً من استخدام ذخائر قد لا تُعوَّض نتيجة إقفال الحدود، أو إيثاراً لحسابات محلّية وسلطوية على الحسابات الوطنية العامة. وهي بّينت في الوقت عينه مركزية القيادة الإيرانية للعمليات العسكرية برّاً، بالتنسيق مع روسيا في غطائها الجوّي الحاسم وطاقتها التدميرية التي أحالت أحياء حلب المحاصرة الى أرض محروقة.

ومعركة حلب ظهّرت إقليمياً مدى التراجع السياسي العربي، ومدى التبدّل في الأولويات التركية. فالسعودية وقطر الداعمتان لقوى المعارضة بدتا بعيدتَين عن مشهد سقوط حلب. وتركيا ركّزت في جهودها على إنقاذ المدنيّين والمقاتلين عبر إخراجهم من الأحياء الشرقية، مقابل توسيع عمليّاتها حول "الفرات" في مواجهة "تنظيم الدولة" وقطعاً للطريق على الميليشيات الكردية في المنطقة. أما الدول الغربية، وفي مقدّمها الولايات المتّحدة الأميركية، فلم تفعل أكثر من استنكار جرائم الحرب الروسية والأسدية، وبدت مسلّمة بالتفوّق الروسي – الإيراني سورياً وبمنطق القوّة العسكرية الذي فرضته موسكو ولم يشأ التحالف الأطلسيّ الردّ عليه.

على أن الأخطر من ذلك، هو ما كرّسته فظاعة ما جرى في حلب من أفولٍ لسلطة المؤسسات الدولية السياسية والقانونية، ومن تراجع لفلسفة التضامن الإنساني على المستويّين العربي والكونيّ.
فالأمم المتّحدة ظهرت معطّلة في مجلس أمنها نتيجة الفيتو الروسي. والأخير، الذي استخدمته موسكو لستّ مرّات منذ بداية الصراع في سوريا صار أداةً لِحماية "جرائم الحرب" و"الجرائم ضد الإنسانية" ومرتكبيها. وفي هذا تهديد خطير للقانون الدولي ولِمُنجزات حقوقية كثيرة ظهرت بعد مآسي الحرب العالمية الثانية. وإذ لا تملك روسيا حصرية المسؤولية عن ذلك، إذ أن استخدام واشنطن للفيتو على مدى عقود حمايةً لإسرائيل من كل إجراء يواجه احتلالها وخرقها للمواثيق الدولية أسّس لإساءة الاستخدام وجعل ازدواجية المعايير أحد عناوين التعامل الدولي مع الشرق الأوسط، فإن في السلوك الروسي الأخير ما وجّه ضربة قاضية لما تبقّى من مصداقية أمميّة. ذلك أن استهداف المستشفيات والمدارس والفرق الطبية والمخابز والمباني السكنية على نحو مُمنهج لم يجد من يردعه على مدى أشهر (وسنوات)، وهو استمرّ الى أن سقطت كامل حلب بيد روسيا وإيران ونظام الأسد والميليشيات الحامية له.

في موازاة هجومها العسكري ميدانياً، وفي موازاة الفيتو الذي تستخدمه أو تهدّد باستخدامه في مجلس الأمن، شنّت موسكو حملةً إعلامية استندت خلالها الى سياسيّين وصحفيّين موالين لها في أكثر من عاصمة غربية. وركّزت الحملة على اعتبار الأخبار حول جرائم الحرب التي يرتكبها سلاح جوّها في حلب مفبركة، وعلى ادّعاء أنها في حرب على الإرهابيّين الذين يتّخذون من السكان المدنيّين دروعاً بشرية. ولاقت الحملة هذه رواجاً في أوساط يمينيّة و"إسلاموفوبية" ترى في موسكو اليوم عاصمةً لقِيم "الفخر القومي" ورفض "الوحدة الأوروبية" ومواجهة الهجرة واللجوء وقتال الحركات الإسلامية. كما لاقت رواجاً في بعض الأوساط اليسارية التي تعتبر كل خصمٍ مُعلَن لواشنطن بمثابة "المتصدّي للإمبريالية". واجتمع اليمينيّون واليساريّون المذكورون على اتّهام الإعلام الذي يُشير الى الجرائم الروسية بتزوير الحقائق، خالقين بلبلةً دائمة في صفوف الرأي العام في بلدانهم وتشكيكاً بالكثير من الأخبار القادمة من سوريا.

ولعلّ "الملل" من تكرار صور العنف، وتصاعد النزعات الشوفينية والخوف من اللاجئين، ورفض "الاستبليشمينت" وانعدام الثقة بالنخب الحاكمة في أكثر من دولة غربية (والتعبير عن ذلك إنتخابياً في أكثر من محطّة)، صبّت جميعها لغير صالح السوريّين المتعرّضين لوابل القصف الروسي والإيراني والأسدي. ورغم اتّساع حجم المظاهرات والاعتصامات المتضامنة معهم في العديد من المدن حول العالم مقارنةً بما ساد في السنوات الماضية، إلا أن حجم التضامن لم يصل الى المستوى الذي يُفترض أن تفرضه نكبةٌ بحجم النكبة التي يتعرّضون لها.


عن التفاهم الروسي التركي، وعن بعض السيناريوهات الممكنة

أتبعت موسكو "انتصارها" العسكري على أهالي "حلب الشرقية" ومقاتليها بإعلان وقفٍ لإطلاق النار في 29 ديسمبر 2017، تلى مفاوضاتٍ رعتها أنقرة بين ضبّاط روس ومسؤولين من فصائل عسكرية سورية معارضة. واستثنى وقف النار هذا تنظيمَي "الدولة الإسلامية" و"فتح الشام".

شكّل الإعلان المذكور تطوّراً ميدانياً وسياسياً هاماً.
فميدانياً، أتاح وقف النار فسحةً للمدنيّين والمقاتلين المعارضين في أكثر من منطقةٍ للخلاص من حدّة القصف الذي يستهدفهم. كما أنّه سمح (ويسمح) للقوى المتقاتلة جميعها بإعادة تنظيم صفوفها وأولويّاتها ومواضع تمركزها.
أما سياسياً، فشكّل التفاوض على وقف النار ونصّ الإعلان عنه اعترافاً روسياً بمشروعية فصائل الجيش الحر والحركات الإسلامية السورية (بما فيها "أحرار الشام" و"جيش الإسلام") التي كانت موسكو قد صنّفتها إرهابية وبرّرت بذلك قصفها على مدى خمسة عشر شهراً. وفي ذلك تحوّلٌ، ولَو أتى بعد إضعاف الفصائل والحركات المذكورة، ستكون له تبعاته السياسية داخل الساحة المعارِضة السورية وعلى صعيد المسارات التفاوضية التي ينوي الروس إطلاقها في آستانة في 23 يناير الجاري تأكيداً لتسيّدهم "الملف السوري". وسياسياً أيضاً، نجحت أنقرة في الحدّ من الأضرار التي أصابت دورها في سوريا منذ بدء التدخّل العسكري الروسي، وتحوّلت الى الراعي الثاني للإعلان، متّفقةً مع موسكو على الاستبعاد المؤقّت للأميركيين والأوروبيّين والمبعوث الدولي دي مستورا، وجعلهم مجرّد شهود أو مواكبين للأحداث، منتقمةً في ذلك من مواقف إدارة أوباما تجاهها ومضيّ الأخيرة في دعم الميليشيات الكردية في الشمال السوري ورفض إقامة منطقةٍ آمنة فيه (إضافة الى ملابسات قضية الإنقلاب الفاشل في تركيا ووجود فتح الله غولن في الولايات المتّحدة).

إزاء هذا التفاهم الروسي التركي، بدت إيران في موقفٍ مرتبك، رغم قوّتها على الأرض السورية. فطهران تحفّظت على ضمّ "أحرار الشام" و"جيش الإسلام" الى أي مسار تفاوضي يلي تثبيت وقف النار. وهي أرادت استثناء منطقة دمشق والمناطق الواقعة بين العاصمة السورية والحدود اللبنانية من أي هدنة عسكرية. واستمرار المعارك والقصف العنيف في وادي بردى والمناوشات في بعض محاور الغوطة الشرقية قرائن على تمسّكها بالتصعيد هناك، إذ ترى أنها القوّة المقرّرة في هذه البقعة التي تريدها "آمنة" لحركة حليفها اللبناني "حزب الله". وإيران كانت تفضّل على الأرجح صيغة الهدن الموضعية على أي اتفاق روسي تركي، يوسّع قدرة أنقرة على المناورة، في لحظة تنظر فيها طهران بقلق الى ما قد يستتبع دخول دونالد ترامب الى البيت الأبيض من تحوّل سياسي أميركي ضدّها. وهي ترى أن ترامب إذ يتهدّدها بلجم نفوذها ومراجعة الاتفاق النووي معها ومنع رفع العقوبات عنها، قد يتسبّب بتقارب إضافي بين روسيا وتركيا على حسابها، خاصة أن موسكو وأنقرة متفائلتان (بِحذر) بالتبدّل في واشنطن ابتداءً من 21 يناير الجاري، وهما تريان في ترامب حليفاً محتملاً في سوريا أو مفوِّضاً لهما لإدارة الصراع[8].

يظهر بالتالي من المعطيات الراهنة، أن روسيا وتركيا تريدان المضيّ قدماً في تحويل الهدنة الهشّة القائمة الى مسار سياسي، يبدأ في مؤتمر آستانة ويستمرّ بعد ذلك وفق شروط ومضامين يحاول كل طرف تحسينها لصالحه. تردّ إيران على ذلك بانخراطٍ جزئيّ في العملية، وبالحفاظ على قدرة تعطيل لها عبر تصعيد عسكريّ مستمرّ ينفذّه حزب الله والنظام الأسدي في محيط دمشق. وليس من الواضح بعد، كيف سينعقد المؤتمر التفاوضي في العاصمة الكازاخية في 23 يناير 2017، في ظلّ تهديد الفصائل العسكرية السورية المعارضة بعدم تلبية الدعوة إن استمرّت خروقات وقف النار الجسيمة، وفي ظلّ سعي موسكو لإنهاء حصرية التمثيل السياسي للمعارضة بـ"الهيئة العليا للمفاوضات"، وفي ظلّ التصادم في وجهات النظر التركية والإيرانية في ما خصّ دعوة أنقرة للسعودية للمشاركة، في حين تريد موسكو تمييع الموقف العربي من نظام الأسد عبر دعوة مصر والأردن للحضور أيضاً. كما أن الموقف الغربي والأممي، ولو أنه قليل التأثير حالياً، يُريد تضمين المسار التفاوضي بنوداً تربطه ببيان جنيف الصادر في 30 يونيو 2012 وما ذكره حول "العملية الانتقالية السياسية" في سوريا[9].

يضاف الى كلّ ذلك أن ما عطّل جميع الجولات التفاوضية السابقة ما زال اليوم موضوع الخلاف الرئيسي رغم مختلف التبدّلات في موازين القوى: مصير بشار الأسد. وتتباين هنا المواقف بشكل كبير. فروسيا لا ترى إمكانية طرحٍ للموضوع إلا من خلال الحديث عن انتخابات رئاسية بعد الانخراط في مسار سياسي جديد وبعد التعاون العسكري ضد "تنظيم الدولة" و"فتح الشام". وتركيا تقول إن لا مكان للأسد في سوريا بعد المرحلة الانتقالية التي ينبغي بحث آلياتها ومدّتها. أما إيران فترفض مجرّد البحث في الأمر، فيما تردّ المعارضة السورية بالقول إن هذا الموضوع هو الأول على جدول أعمالها، وتجد دعماً لموقفها في بعض العواصم العربية (الدوحة والرياض بخاصة) والأوروبية (باريس أولاً ثم لندن وبرلين). ولا يبدو الأسد من جهته قادراً على التأثير في شيء. فموسكو وطهران لا تتركان له حيّزاً للقرار، وجلّ ما يستطيع الرهان عليه هو فشل جميع محاولات التسوية السياسية، وعودة الصدام العسكري واستمرار التدخّلين الروسي والإيراني الوازنَين ضدّ خصومه.


بناءً على ما تقدّم، لا تبدو السيناريوهات المقبلة كثيرةً، كما لا يمكن التكهّن بعددٍ من العوامل، لا سيّما تلك الخاصة بالسياسة الأميركية، التي ستؤثّر حكماً فيها. وهذا يدفع الى التفكير بفرضيّتين: فرضيّة تثبيت وقف إطلاق النار واستمرار الخروقات له في بعض المناطق بالترافق مع استمرار العمليات العسكرية الروسية والتركية والأميركية في مناطق أُخرى؛ وفرضية انهيار وقف النار وعودة المعارك الى الجبهات مع أولويّات عسكرية روسية وإيرانية مختلفة ولَو أنها في جميع الأحوال لا تغيّر من تفوّقهما العسكري في جميع الجبهات.

في الفرضية الأولى، قد يستمرّ الانخفاض في العمليّات العسكرية في جنوب سوريا وفي محافظات إدلب وحماه وحلب، في حين يستمر القتال في محيط دمشق مع سعي إيراني-أسديّ للتقدّم هناك وقضم المزيد من الأراضي وتهجير أهلها. وفي الفرضية الثانية، قد يعود التصعيد العسكري الى مختلف جبهات القتال مع محاولات تقدّم على الأرض للنظام وحلفائه في محافظتي حماه وإدلب وفي غوطة دمشق والقلمون.

وفي حالتَي الفرضيّتين، فإن الغارات الجوية الأميركية والروسية على مواقع "فتح الشام" ستستمرّ، وكذلك الغارات الأميركية على "تنظيم الدولة"[10]. وتبدو تركيا بدورها مصمّمةً على مواصلة عمليتها العسكرية "درع الفرات"[11]، وتوسيع الرقعة الجغرافية التي تسيطر وحلفاؤها المعارضون عليها[12]. وليس من المستبعد أن تُعيد تركيا دعم فصائل معارضة في محافظة إدلب إن فشل المسار السياسي وبدا أن إيران تسعى لإيجاد نفوذ مباشرٍ لها بعيداً من العاصمة السورية (ومن جنوب البلاد ووسطها).

في الخلاصة، يمكن القول إن العام 2017 سيحمل المزيد من المتغيّرات في المنطقة والعالم[13]. وسيكون للمتغيّرات هذه بلا شكّ تأثير كبير على الصراع في سوريا وعليها.

زياد ماجد



[1]  راجع ورقتنا في مركز الجزيرة للدراسات المنشورة في 1 يونيو 2016 بعنوان "مفاوضات بلا أفق وتحدّيات استراتيجية القضم".
[2] شنّت حركة "نور الدين الزنكي" وجبهة "فتح الشام" و"كتائب أبو عمارة" هجوماً على مراكز تجمّع "فاستقم" في حلب الشرقية في أوائل شهر نوفمبر 2016 وصادرت أسلحة وذخائر واشتبكت مع عناصر التجمّع ممّا أوقع العديد من الضحايا.
[3] دارت اشتباكات بين العديد من الفصائل في محافظة إدلب، وكان أعنفها الاشتباكات بين حركة "أحرار الشام" و"جند الأقصى" في أكتوبر 2016.
[4] شهدت بعض مناطق الغوطة الشرقية في شهري أبريل ومايو 2016 معارك عنيفة بين "جيش الإسلام" من جهة، و"فيلق الرحمن" و"جيش الفسطاط" من جهة ثانية. وأدّت المعارك الى مقتل العشرات من المسلّحين والمدنيّين.
[5] تشهد مناطق الجنوب السوري منذ أشهر طويلة عمليّات اغتيال دورية لمسؤولين عسكريّين وقادة وحدات ومجموعات معارضة محسوبة على "الجيش الحرّ" أو على الفصائل الإسلامية. كما تشهد أطراف هذه المناطق معارك متقطّعة بين "الجيش الحر" والمقاتلين الإسلاميّين من ناحية، وبين "جيش خالد بن الوليد" الموالي لتنظيم "الدولة الإسلامية" (والصاهر في صفوفه عناصر "حركة المثنّى" و"لواء شهداء اليرموك") من ناحية ثانية.
[6] ساعدت الميليشيات الكردية قوات النظام وحلفائه في عمليّاتهم العسكرية، إذ تقدّمت في 29 نوفمبر 2016 من منطقتي الشيخ مقصود والأشرفية الى أحياء بستان الباشا وعين التل والشيخ خضر وغيرها من الأحياء الشمالية الشرقية لحلب.
 [7]يُشير الكاتب بِن طُوب في مقالته المعنوَنة "إجلاء حلب، جريمة ضد الإنسانية" في مجلة نيويوركر (بتاريخ 22 ديسمبر 2016) الى جملة قرارات أممية ومواثيق وآراء حقوقية، بينها رأي المدّعي السابق في المحكمة الجنائية الدولية، ألكسندر وايتينغ، الذي يُذكّر بأنّ إكراه مدنيّين على ترك بيوتهم وتخييرهم بين المغادرة والتعرّض للقصف أو للخطر هو عملية "ترانسفير"، وهو بالتالي جريمة حرب.
[8] مع ضرورة التنبّه هنا الى احتمال تبدّل خطاب ترامب تجاه موسكو، ولو ببطء، خاصة بعد إقراره بصحّة التقارير الرسمية الأميركية التي تتهّمها بالقرصنة الإلكترونية، وفي ظلّ تصاعد أصوات جمهورية وديمقراطية تطالب بالمزيد من التشدّد معها والتصدّي لسياساتها.
[9]  هذا ما ترجمه قرار مجلس الأمن الصادر في 31 ديسمبر 2016 من دعم لوقف إطلاق النار مذكراً بضرورة تطبيق "كل قرارات الأمم المتحدة ذات الصلة" ومؤكّداً على أن "المفاوضات المقررة في آستانة هي مرحلة مهمة استعداداً لاستئناف المفاوضات برعاية الأمم المتحدة".
 [10] تفيد الإشارة في هذا السياق الى أن الحرب الشاملة على "تنظيم الدولة" في العراق، قد تعدّل من خططه وأولويّاته، وتنقل جانباً من ثقله العسكري الى دير الزور والرقة معقّدة بالتالي ظروف المعارك ضده في سوريا والسباق المحموم بين العديد من الأطراف للسيطرة على كل منطقة ينكفئ عنها.
[11] لمعركة مدينة الباب الدائرة أهميّة خاصة في السياق المذكور إذ هي نقطة استراتيجية محورية في مواجهة كلّ من "تنظيم الدولة" والميليشيات الكردية.
[12] والأمر يعني بالتالي صدامات مزدوجة مع "تنظيم الدولة" ومع "الميليشيات الكردية" التي تنتظر بدورها ما سيجري في واشنطن لمعرفة كيف ستتعامل الإدارة الأميركية الجديدة معها.
[13] من بين المتغيّرات هذه، بعد مغادرة أوباما للبيت الأبيض ودخول ترامب إليه، بدءُ المباحثات لفضّ بعض أوجه الشراكة الأوروبية البريطانية، ثم انتخابات رئاسية وتشريعية في فرنسا وألمانيا، إضافة الى مباشرة الأمين العام الجديد للأمم المتّحدة أنطونيو غوتيريش مهامه خلفاً لبان كي مون.