Sunday, July 26, 2015

الطائفي وغير الطائفي في جريمة الجمّيزة

شهد لبنان الأسبوع الماضي جريمةً مروّعة أردت مواطناً اسمه جورج الريف بعد أن طارده المدعو طارق يتيم وأوسعه ضرباً وركلاً وطعناً بالسكّين في حيّ الجمّيزة البيروتي لخلافٍ قيل إنه على أحقّية المرور. وقد صوّرت كاميراتٌ في الشارع وهواتف نقّالة الجريمة المقزّزة، وصوّرت كذلك ذهول الناس واكتفاءهم بالتفرّج على القتل دون أي محاولة لردع القاتل أو حتى مخاطبته. وهذا في ذاته يستحقّ تفكّراً في أسبابه، ليست السطور التالية مجالاً له. فما يعنينا هنا هو ما أثارته الجريمة من سجالات حول سياقها الطائفي أو رمزيّتها الطائفية لبنانياً، إن لجهة موقع حدوثها وما يمثّله، وهذا مستوى أوّل للبحث، أو لجهة انتماء "طرفَيها" – القاتل والمقتول – الى طائفتين مختلفتين، وهذا المستوى الثاني.


في المستوى الأوّل، ثمة مسألة لا يمكن نفيها. مكان الجريمة له هوية وخصائص ديموغرافية (مسيحية مدينية)، وارتكاب الجريمة فيه بهذا الأسلوب يدلّ على استسهال الجاني أمر التعدّي على الضحية في الحيّز العمراني المذكور وخصائصه، إذ يصعب تخيّل حدوث جريمة مشابهة (وربما من الجاني إياه) في حيٍّ آخر ذي خصائص ديموغرافية مختلفة. وتصل صعوبة التخيّل حدود الاستحالة في حال كان الحيّ واحداً من أحياء الضاحية الجنوبية لبيروت، مثلاً.
وهذا إن صحّ، يعني أن بعضَ من اعتبر القتل في ملابساته وموقعه وشكله استرخاصاً لحقّ مسيحيٍ في الأمان والندّية "المواطنية" في الشارع (أو حتى المساواة في الأدوار الإجرامية!) محقٌّ الى حدٍّ ما في اعتباره.

على أن البحث في المستوى الثاني يُبرز مسائل تُعقّد المشهد وتجعل ما أشرنا إليه في المستوى الأوّل عنصراً واحداً من مجموعة عناصر تحيط بالجريمة. فإن وضعنا الأخيرة في إطارها الجنائي الأوسع وأردنا استكشاف الخصائص الطائفية لعمليات القتل غير السياسي في لبنان، لوجدنا (بالاستناد الى سجلّات المخافر ونشراتها المتوفّرة في الكثير من وسائل الإعلام) أن نسبة الجرائم ضمن الطائفة نفسها أعلى بما لا يقاس من نسبة الجرائم التي ينتمي أطرافها الى طوائف مختلفة. ولذلك أسبابٌ ترتبط على الأرجح بنزاعات الجيرة المباشرة والخلافات العائلية والشخصية وجرائم قتل الأزواج لنسائهم – وهي الجرائم الأبشع التي لا يحظى وقوعها للأسف بنفس الضجة والتغطية الإعلامية.
وإن دقّقنا في مهنة "قاتل الجمّيزة" (المسلم الشيعي)، يتبيّن أنه كان مرافقاً أمنياً لشخصية عامة (مسيحية) ذكرت تقارير إعلامية عدّة أنّها حمَته من القانون حين ارتكب قبل مدّة تعدّيات على مواطنين (لم تبلغ مرحلة القتل أو الشروع به) في موقعين لا يبعدان كثيراً عن موقع جريمته الجديدة. فهل في الحصانة التي ربحها القاتل (الشيعي) بفضل التدخّل السابق (المسيحي) ما شجّعه على المضي في جرائمه، أم أن حصانته متأتّية من هويّته (الشيعية) ومن موقع تنفيذه الجريمة (المسيحي) بمعزل عن أيّ ملابسات؟ بمعنى آخر، هل ما سهّل ارتكاب الجريمة بهذه العلانية والاستعراضية والدم البارد هو الثقة بالقدرة على الإفلات من العقاب نتيجة رعاية ربّ عمل نافذ (ينتمي الى طائفة مختلفة)، أو هو استقواء القاتل بانتمائه الطائفي وعدم تهيّبه القتل في حيّ تقطنه أغلبية من طائفةٍ أُخرى؟

يميلُ كاتب هذه السطور الى الفرضية الأولى، من دون إسقاط ما سبقت الإشارة إليه ممّا قد يبدو استسهالاً للاعتداء في مناطق مدينية لا عصبية أهلية أو استنفاراً أمنيّاً يرّد معتدِياً عنها.
والميل الى الفرضية الأولى يعني ببساطة أن تراجع فلسفة الحق والقانون في لبنان وتدهور أحوال مؤسّسات الدولة الذي نخاله أحياناً لا يقدّم أو يؤخّر كثيراً في مسار الأمور، بدأ يظهر على شاكلة أفعال كفعل طارق يتيم، الذي ظنّ أنه قد ينجو مرّة جديدة من العدالة بحُكم شبكات الفساد واستغلال النفوذ وتواطؤ بعض السياسيين والقانونيين والأمنيّين. لكن الفظاعة المشهديّة للجريمة هذه المرة وحرّية الإعلام ونشاطيّة التواصل الاجتماعي كانت له (وستكون للحكم المُنتظر عليه) بالمرصاد. 

يبقى أنه من المفيد، بالعودة الى السجال حول الأبعاد الطائفية لجريمة الجمّيزة، التذكير بأن من يُشرّع لحزبٍ يمثّل طائفةً حمل السلاح والقتال داخل الحدود وخلفها بمعزل عن إرادات قسم كبير من اللبنانيّين وما تبقّى من مؤسّساتهم الدستورية لا مصداقيّة له تخوّله استنكار الكلام الطائفي الغاضب الصادر عن بعض الأفراد والجماعات عقب الجريمة النكراء. تماماً كما لا مصداقية وعقلانية للأخيرين إذ يدعون الى حمل السلاح أو إقامة أمن ذاتي اقتداءً بالخصوم والأنداد. فالعلاج الوحيد لجرائم كالتي شهدناها في الآونة الأخيرة يبدأ بالعقاب أمام القضاء وبالتشهير بأي سياسيّ أو صاحب نفوذ يحاول حماية مجرم، ويُستكمل بعودة الدولة يوماً ما كـ"مُحتكر للعنف" ولحماية المواطنين على كامل الأراضي اللبنانية.
زياد ماجد