من فضائل الثورة السورية الكثيرة، رغم الجراح والأوجاع، وربّما بسبّبها، أنّها هشّمت مقولات سادت في السياسة العربيّة ومفرداتها منذ عقود، وتحوّل المسّ ببعضها الى ما يُشبِه المُحرّمات.
ويُمكن في هذا الإطار التوقّف سريعاً عند ثلاث منها.
الأوّلى، هي المرتبطة بما سُمّي تجريم المُقارنة بين "الأخ" والعدوّ، حتى ولو كان تنكيل الأخ أشد مضاضة من ذاك الذي يمارسه العدو. ويكفي اليوم قراءة ما يكتبه الناشطون السوريون في مقالات أو في عبارات على مواقع التواصل الاجتماعي لمعرفة مدى تهتّك هذا المحظور، وتحوّل المقارنات بين بطش النظام السوري وبطش الاحتلال الاسرائيلي الى ما يشبه البداهة، التي لا يزيدُها ترسّخاً سوى دفاع "المُمانعين" عن نِظامهم من خلال نفي تفوّقه على إسرائيل إجراماً وتأكيدهم أن الأخيرة ما زالت في المقدّمة!
وأهمّية تحطيم هذا التجريم للمقارنات تتخطّى الواقع اليومي والابتزاز المُمارس باسمه، لتساهم في تقويض بعض ركائز الاستبداد العربي ذاته وتبريراتها "الوطنية" أو "الأخوية" التي كلّف اعتمادها تنازلات أفضت مصائب ومهازل.
الثانية، هي نظريّة مفادها مشروطيّة البديل الناصع الناضج للقبول بالتغيير أو مواكبته. وهي نظريّة اعتُمدت لتبرير الاستكانة للظلم وذلّه، بحجّة انتفاء البدائل "المُطمئنة" إن هو تلاشى. فإذا بالثورة السورية تطيح بها، وتؤكّد على ضرورة إسقاط الاستبداد كشرط لإقامة البدائل. إذ في ظل القمع وحالات الطوارئ والسجن السياسي وتأبيد السلطات وتوارثها لا فرصة لأي عمل ونشاط. وحدهما التغيير وهدم المُعتقلات يؤسّسان للبناء الجديد.
والثالثة، هي مقولة لم تعطِ الحرّية في بلادنا غير موقع متأخّر في سلّم أولويّات الناس، مقدّمةً عليها ما أسمته استقراراً تارةً، أو اقتصاداً تارة أخرى. وهي مقولة يتحمّل بعض اليسار قسطاً من المسؤولية في تكريسها، واعتباره الحرّيات الفردية والجماعية كماليّات تأتي بعد الاكتفاء الذاتي والمساواة الاجتماعية وتأهّب الجيوش لمنازلة الأعداء. كما يتحمّل بعض المثقفين من ممالِئي الأنظمة أو الصامتين عنها مسؤولية أيضاً في استدامتها، لنظرتهم الفوقية الى مجتمعاتهم واعتبارها غير مؤهّلة للتحرّر أو غير معنيّة بمفاهيمه. وقد تبيّن منذ اندلاع الثورة في سوريا وقبلها في تونس ومصر واليمن وليبيا والبحرين، وقبلها جميعاً في إيران عام 2009، أن لا شيء يعوّض غياب الحرّية، وأنها أعزّ ما يطلبه الإنسان لنفسه ولقومه، فهي مدخل المساواة الوحيد وهي ضمانة الاستقرار على المدى الطويل.
هكذا إذن، تداعت في تسعة أشهر مقولات عاشت عقوداً بمساءلات محدودة وخجولة والتهمت تبِعاتُها آمال جيلين من المواطنين. وهكذا أيضاً، مكّنت الثورة السورية عقولاً وعواطف من التحرّر من أصفاد كادت تودي بها الى الصدء قبولاً بسائدٍ، يصعب مهما كانت الصعوبات والتحدّيات أن يسود مستقبلاً ما يتخطّاه سوءاً.
زياد ماجد