لم يسبق أن شهدت الحياة السياسية اللبنانية بهتاناً يشبه البهتان الذي تعيشه راهناً، إن في مفردات التخاطب وأدبيّاتها، أو في شحّ الأفكار والمشاريع، أو في القضايا المطروحة والمقاربات المُعتمدة تجاهها.
فمن الأحذية ومقاساتها و"شرفها" وما تمثّله من فقر مخيّلة لغوية وثقافية، الى التراشق بين سياسيين ودينيين ومفتين حول مسائل سقيمة، مروراً باستمرار تساقط مفردات التخوين والمؤامرات وما يرافقها من اجترار لفظي وسياسي، وصولاً الى استمرار استصدار القوانين المجحفة بحق المرأة، وانتهاءً بما يبدو تبنّي قوى سياسية ومرجعيات دينية لمشروع قانون انتخاب هو أشبه بنظام ملّة القرن التاسع عشر منه بقوانين الانتخاب في القرن الواحد والعشرين، يستمرّ الانحدار اللبناني، ويبدو بلا فرامل.
ولم تعد تكفي المقاربات السياسية المباشرة لتفسير الانحدار المذكور. فلا الحديث عن احتقان مذهبي أو عن ارتباطات خارجية أو عن تفشّي الزبائنية، على وجاهته، يهدينا الى أسباب التهتّك الراهن، ولا البحث في تبعات الشلل المؤسساتي نتيجة تفاقم الأزمات وعجز "الديمقراطية التوافقية" عن إدارتها أو إيجاد الحلول لها، على صّحته، يوصلنا الى الأسباب هذه. هو يكفي ربما لشرح عجز الحياة السياسية عن التطوّر في لحظة تخرج فيها المنطقة بأكملها من شبه غيبوبة فرضها الاستبداد لعقود. ويكفي أيضاً لشرح حدّة الاستقطابات التي تعطّل كل محاولة جادة للإصلاح أو التغيير. لكن ثمة شيء آخر ينبغي التوقف عنده، أو على الأقل التفكير به. هو التأقلم والتعايش اليومي مع الإسفاف والخفّة والأحكام الجاهزة مما يجعلها كثيرة الوقوع معدومة الأثر، لا طابع صدمة أو هول تثيره ولا قدرة على توليد ردود فعل حادة ومعمّمة لشجبها. وهذان التأقلم والتعايش الخطيران يؤمّنان للانحدار سكّة، ويرتبطان بعدّة عوامل، منها:
- إفلاس معظم الأقطاب السياسيين على عدة مستويات وقناعتهم بأن ما يقولونه قليل الأثر على الساحة المحلية، وهو قابل للتعديل، وإن تسبّب بمشكلة فالوساطات (الخارجية خصوصاً) كفيلة بالتعامل معها.
- إنتفاء الرقابة المواطنية التي تمثّل الانتخابات إحد أوجهها الأبرز، ثم الإعلام، والرقابة القانونية التي يجسّدها القضاء المستقل، إذ أن لا مسؤولاً يخشى اليوم من خسارة نسب كبرى من أصوات الموالين له إن هو أسَفّ أو تعطّل عن العمل أو هدّد أو تراجع عن موقف. ولا منتهكاً لتشريع أو لقانون يردعه رأي حقوقي أو حكم قضائي، ولا خشية عند أقطاب الطبقة السياسية من مظاهرات شعبية كبرى تستهدف بعضهم طالما أن التمترس المذهبي يُخرج مظاهرات مضادة دفاعاً عنهم أو عن حلفائهم.
- تنافس الإعلام المرئي والمسموع مع ذلك المطبوع على تعميم أخبار ومشادات ومفردات فيها قليل مضمون وكثير إثارة، إضافة الى الأخطاء وتشويه للحد المقبول من الثقافة السياسية واستسهال الكلام حول أي شيء لدى ضيوف البرامج الحوارية، بلا وازع ولا رادع.
- ضغط الحياة اليومية وما فيها من تلف أعصاب، حتى قبل الوصول الى نقاش القوة الشرائية والأوضاع الاقتصادية للبنانيين. فالاختناق المروري في بيروت الكبرى سمة دائمة، والقضم العمراني لكل مساحة صغيرة حوَت مرةً حديقة أو بيتاً قديماً لا يتوقّف، والاستكانة الى "قدَر" الكهرباء مدهش ومضنٍ، وصار فيه من العبثية الكثير لجهة تنظيم الوقت والمهام والموازنة وفق جدول التقنين المستمر منذ سنوات طويلة رغم المليارات المُنفقة على قطاع الكهرباء خلال العقدين الماضيين. وكل هذا مدعاة صراخ وغضب يرى في صراخ السياسيين أحياناً صدىً له لا يقلقه، ولو لأسباب جذرياً مختلفة.
- الخوف الدائم من الحروب، بحيث يقضي الراشدون جزءاً من أوقاتهم في نقاشات حول احتمالات الحرب وسيناريوهاتها، معتبرين سلفاً أن وقوعها في المنطقة يعني وقوعها في لبنان، ولو كان موضوعها شأناً يمكن ألّا يعني اللبنانيين مباشرة. والخوف هذا فيه من تجارب الماضي الكثير، لكن فيه أيضاً من الامتلاك الراهن لحزب لبناني سلاحاً يعدّه خاصاً بمقاومته وتحالفاتها الإقليمية الكثير الكثير. فالسلاح ليس عدواناً كما في 7 أيار 2008 أو كفاءة قتالية كما في تموز 2006 فحسب. هو أيضاً منظومة ترهيب دائمة، ومدعاة قلق وخوف عند الحلفاء كما عند الخصوم، من الانجرار في ليلة بلا ضوء قمر الى مواجهة إسرائيلية إيرانية، أو الى سيطرة أمنية داخلية ترافق انهياراً في سوريا، أو الى تخويف رمزي للتحكّم بمسارات وتعطيل أخرى...
يعني كل ذلك، في ما يعنيه، إضعافاً للسياسة بما هي عامل مدني وإرادي في العلاقة مع الشأن العام وتحويلها الى منطقة "حظر" ينبغي لفئة محدودة التعاطي بها ومعها، ويعني كل ذلك أيضاً تكريساً للمسار الانحداري. وهو مسار لا قعر له. فالجاذبية عامل تعزيز دائم لاندفاعه. وحدها إرادة الخروج منه أو تبدّل الظروف المحيطة به يمكن أن تلجمه، وفيها وحدها أيضاً ما يُبقي الأمل حياً.
زياد ماجد