إكتشف بعض الكتّاب مِمّن أربكهم إجرام النظام السوري لفترة، فاستحوا من الدفاع عنه وصمتوا أو بدوا متعاطفين مع الثورة ضدّه، طوقَ نجاة لهم لِيتملّصوا من شبهة ارتباكهم أو صمتهم أو تعاطفهم المؤقّت السابق. وطوق النجاة هذا يسمّونه "تدخّلاً خارجيّاً". فصاروا يختبئون خلف اكتشافهم لإعلان أفعال ندامة، أو لكتابة مقالات فيها سطران عن استنكارهم لعنف النظام (المفضي خمسة آلاف قتيل وعشرات ألوف الجرحى والمعتقلين والمفقودين والمهجّرين والمختبئين)، وصفحتان لهجاء المعارضة والثورة واتّهامها بالسعي لاستدراج التدخّل الخارجي. أي أن العنف المادي والمعنوي الممارس منذ تسعة أشهر وآلاف ضحاياه يستثيرون فيهم سطرين، وبعض المفردات والألفاظ التي يلجأ إليها الضحايا أو الاجتماعات التي يعقدها ممثّلوهم تتطلّب منهم معلّقات يصِلون في ختامها الى جوهر الموضوع: "نحن لسنا مع الثورة لأنها... تتعامل مع الخارج". وهذا معناه في أحسن الأحوال الحياد بين القاتل والقتيل، وفي أسوئها الانحياز الى القاتل على اعتباره "وطنياً"، أي "داخلياً".
والحقّ أن ثمة حاجة للتدقيق قليلاً في مصطلح "الخارج" لأن كثراً من الناس الذين يراقبون الوضع في سوريا، يردّدون بدورهم هذا المصطلح وكأنه مسلّمة أو معطى بديهي. فما هو "الخارج" الذي لا يكلّ البعض من التخويف منه؟
في الواقع، لا يملك أيّ من مستخدمي هذا المصطلح (من باب التحذير) تعريفاً واضحاً لما هو المقصود به. فهو مرةً دول، الثابت الوحيد فيها هو أميركا، أما المتغيّرات فتبدأ من فرنسا وألمانيا وبريطانيا واليونان لتصل الى السعودية وتركيا وقطر فالأردن. وهو مرة أخرى منظومات دولية وإقليمية حكومية مثل الأمم المتّحدة والمؤسسات القانونية التي تتناسل تشريعياً منها أو الجامعة العربية أو حتى منظمة التعاون الإسلامي، وغير حكومية مثل منظمات حقوق الإنسان ووسائل الإعلام، وهو مرّة ثالثة شبح أو كائن هلامي يصعب تعريفه أو حصره أو لمسه أو رؤيته، لأنه "مؤامرة" تُسافر كالغيم ثم تهطل فجأة بالدسائس... لكنّه في أيّ من الأحوال لا يشمل روسيا أو الصين أو إيران أو فنزويلا أو بعض الشركات الأميركية والأوروبية بائعة تكنولوجيا المعلوماتية والاتصال، ولا يشمل حتى الجار العراقي (رغم أنه مُحتلّ أميركياً). أي أنه خارج إنتقائي تتوسّع لائحة أعضائه ما أن يُنتقد النظام السوري، وتتعدّل على الدوام خرائطه الجيوسياسية وِفق المواقف المتّخذة من العائلة الحاكمة في دمشق، أو من المظاهرات الرافعة شعارات الحرّية...
بهذا نقع على دول وأممٍ وهيئات ليست "سوريا الأسد" عادةً هاجس زعمائها ومصدر أرق نخبها السياسية والاقتصادية أو موظفّيها لا تنام لهم عينٌ قبل التآمر عليها. كما نقع على تقسيم للعالم الى خارج معادٍ تعريفاً ويضمّ أكثر الدول والمنظومات، وثقب أسود يشمل الدول الصديقة، فتكاد تختفي من الخريطة أو تتحوّل "داخلاً".
وعلى أساس غياب التعريف بالخارج خارج الإطار التآمري، أو الموقف النقدي لانتهاكات النظام السوري ضد شعبه، يصبح بيع الأسلحة لهذا النظام من قِبل الدول الصديقة له، أو تقديم المعونة الأمنية والتكنولوجية التي تمكّنه من قمع المتظاهرين أو إرسال الأموال لدفع "متوجّباته" تجاه ميليشيات الشبيحة، أعمالاً عادية ليس فيها شبهة تدخّل في الشأن السوري. فالقمع وآلته شؤون "وطنية"، والدول الداعمة لهما هي جزء من فضاء "الداخل". لذلك، يمكن القول، ومن دون تحامل، إن من يدعو "المعارضة" الى عدم التعاطي مع "الخارج" كشرط للتعاطف معها، إنما يريد للنظام أن ينجح في إبقاء الثورة تحت كيّ نيرانه وعنفه الهمجي، وأن يواصل القتل بصمت (وبدعم!). كما أنه يعلن عداءه للقانون الدولي وللمؤسسات الحقوقية، ويُعلن إن كل ما لا يناسب سياساته ما هو إلا عمليات استهداف. وهذا بالمناسبة شديد الشبه بالمواقف الاسرائيلية التي ترفض القوانين الدولية وقرارات الأمم المتّحدة وتعتبرها على الدوام منحازة، وتردّ على انتقاد جرائمها بتوزيع تهم معاداة السامية يميناً ويساراً.
الحال إذن إن القسم الأكبر من مدّعي النزاهة و"رفض العنف" في مقدّمات نصوصهم والمصوّبين اتّهاماتهم وتشكيكهم الى المعارضة في متون تلك النصوص ما هم في المؤدّى السياسي لما يكتبون إلّا مدافعين عن نظام آل الأسد على نحو أكثر خبثاً من أولئك الممانعين الذين يتحدّثون عن قلعة المقاومة والصمود والتصدي.... فقضية "الخارج"، حين يتظاهر مئات الألوف تحت الرصاص مطالبة بالحرية في بلاد الطوارئ والمخابرات وحكم الأب والإبن منذ 41 عاماً، تزوير كبير، وأصدق شعار يصحّ في مُعتمديها هو تعميم ذلك الذي كتبه مواطنون سوريون من بلدة كفرنبل ليشملهم: "السيد الرئيس، مؤامرة اللي تخلع رقبتك".
زياد ماجد