Sunday, July 11, 2010

كأس العالم 2010: إسبانيا على عرش الكرة - ملاحظات حول البطولة وأبرز منتخباتها

إنتهى "المونديال" بنسخته الجنوب أفريقية، وتوّجت إسبانيا على عرش الرياضة الشعبية الأولى في العالم، وكوفئ جيل من لاعبيها الموهوبين والمتجانسين بثاني كأس خلال عامين بعد أن كانوا قد حصدوا لقب بطولة أوروبا عام 2008.
في الفقرات التالية، قراءة في بعض مفارقات المونديال وأداء أبرز الفرق فيه، وملاحظات سريعة على هامش مجرياته.



في الأداء الكروي العام
إذا ما استثنينا إسبانيا (وسنعرض لأدائها لاحقاً)، يمكن اعتبار أداء معظم المنتخبات في كأس العالم 2010 تتويجاً لثقافة كروية افتتحها كأس العالم 1990، وتقوم على الواقعية وتفضيل الفاعلية على حسن اللعب والانضباط التكتيكي على حرية التصرف بالكرة والقوة البدنية واللياقة العالية على المهارة والقدرة على الارتجال – خاصة أن النجوم الخارجين على هذه القاعدة بفنّياتهم وسحر ألعابهم (ميسي، كاكا، كريستيانو رونالدو، وسواهم) لم يكونوا بمستواهم المعهود.
ويمكن القول إن خبرة النوادي الأوروبية الكبرى (الإسبانية والانكليزية بخاصة، ومن بعدها الإيطالية والألمانية) فرضت نفسها على المنتخبات، بحيث استفاد قسم كبير منها ممّا توفّره هذه الفرق من إعداد للمحترفين في صفوفها من مختلف أنحاء العالم، ورفع لمستوى الحس التكتيكي وللقدرة على التأقلم السريع مع ظروف اللعب المختلفة. وإن راقبنا المنتخبات المشاركة جميعها، مستثنين طبعاً كوريا الشمالية، لا يخلو منتخب وطني من لاعبين محترفين في البطولات الإسبانية والانكليزية ثم الايطالية والألمانية. وهذا يعني أن 3 أو 4 عقليات كروية صارت تتسلّل الى أكثر المنتخبات، بما فيها الجنوب أميركية (نصف لاعبي منتخبي البرازيل والأرجنتين لعبوا أو ما زالوا يلعبون في النوادي الإسبانية والإيطالية).
الجانب السلبي في الأمر، أنه أدّى الى تقلّص الفوارق بين المدارس الكلاسيكية وأساليبها الدفاعية أو الهجومية أو المركّزة على امتلاك الكرة وانتظار أخطاء الخصم، وإن لم يلغها تماماً، وقلّل من المفاجآت الفردية في المباريات نظراً لمعرفة كثر من اللاعبين الشخصية بمنافسيهم وبطرق تحرّكهم على أرض الملعب.
وبعد أن بدا عقب الدور الأول أن منتخبات أميركا اللاتينية تتّجه للتفوّق على منافساتها الأوروبية (في ظل تواضع مستوى المنتخبات الأفريقية والآسيوية)، انقلبت الأمور في الدور الربع النهائي، ولم يصل الى المربّع الأخير من لاتينيي أميركا سوى منتخب الأوروغواي (المكافح والناضج تكتيكياً وفيه أحد أبرز مهاجمي البطولة دييغو فورلان)، وتأهلت الى المباراة النهائية إسبانيا وهولندا، مما يعدّ إنجازاً أوروبياً هاماً إذ أضيفت الى نادي الفائزين بالكأس دولة جديدة، أوروبية، جعلت المحصّلة 10 كؤوس لصالح الأوروبيين (4 لأيطاليا، 3 لألمانيا، 1 لإنكلترا، 1 لفرنسا و1 لإسبانيا) مقابل 9 كؤوس للأميركيين الجنوبيين (5 للبرازيل، 2 للأروروغواي و2 للأرجنتين).


في ظروف اللعب
لا شك أن إقامة المسابقة الرياضية الأهم دولياً في أفريقيا حدث مهم، وأن تنظيمها في أفريقيا الجنوبية بالتحديد يضاعف الأهمية، أولاً لأنه يشجّع الرياضة والسياحة والاختلاط وتعميم الحالة الكرنفالية في بلد عانى على مدى عقود من أبشع أنواع التمييز العنصري والحزن والعزلة. وثانياً، لأن المسابقة هذه منذ انطلاقها عام 1930 لم تخرج مرة من أميركا اللاتينية أو من أوروبا إلا عام 2002 حين استضافتها اليابان وكوريا الجنوبية، وهي تحتاج في إدارتها للمزيد من التواصل مع أفريقيا ومئات ملايين محبي الكرة فيها.
وواقع الحال، أن النجاح التنظيمي وحداثة النقل التلفزيوني والإعلامي، وجمال الملاعب وجودة أرضيتها وحسن مستوى البنية التحتية الرياضية والخدماتية الموضوعة في تصرف المنتخبات والصحافيين والمشجعين، لم تحجب أموراً أربعة (لم تكن ثلاثة منها متوقّعة) أثّرت سلباً على الحدث الكبير، وهي في أي حال ليست من مسؤولية الدولة المستضيفة.
الأمر الأول المعروف سلفاً هو الظرف المناخي، إذ أن الفصل فصل شتاء في جنوب إفريقيا، وهذا أثّر على بعض اللاعبين بسبب البرد والمطر والتفاوت في درجات الحرارة بين الليل والنهار (خاصة في المدن الداخلية وتلك المرتفعة عن سطح البحر).
الأمر الثاني، المفاجئ، هو الكرة التي اعتُمدت في المسابقة، والتي تقلّصت في تصميمها مساحة التخييط والفرزات والقطبات، على نحو جعل "قوة احتكاكها" بالريح أقل، وبالتالي سرعتها أكبر خاصة إن ارتدّت من الأرض أو من جسم لاعب عقب تسديدها. وهذا أربك حرّاس المرمى لجهة حيرتهم الدائمة بين الصدّ والتشتيت أو محاولة الالتقاط. وقد دفع عدد منهم الثمن غالياً (حرّاس الجزائر وغانا والأوروغواي ونيجيريا بخاصة).
الأمر الثالث المفاجئ هو سوء التحكيم في أكثر من مباراة (أبرزها البرازيل - ساحل العاج، إسبانيا – الباراغواي، الأرجنتين – المكسيك، هولندا - سلوفاكيا)، ولو أنه في مباراة ألمانيا وإنكلترا وصل الى حدّ فضائحي أنكر على الانكليز هدف تعادل إثر سقوط الكرة خلف خط المرمى الألماني (على مسافة 36 سنتيمتراً داخل المرمى!). وهذا طرح من جديد مسألة الكاميرا والاستعانة التحكيمية بها في حالات محدّدة؛ كما طرح جدوى وجود شاشات عملاقة داخل الملعب تعيد عرض الكرات الإشكالية والفرص والأهداف مما يُظهر أخطاء الحكّام بعد ارتكابها بثوانٍ فيربكهم ويضعف تركيزهم (وقد حصل الأمر بعد هدف الأرجنتين الأول في شباك المكسيك الذي أظهرت إعادته حالة التسلل الواضحة).
أما الأمر الرابع، المفاجئ أيضاً، فهو ظاهرة الفوفوزيلا التي أطفأت علاقة الجمهور الصاخبة بمجريات اللعب، فغابت أصوات الانفعالات والأغاني وآهات التحسّر وارتفاع وتيرة التشجيع والهتاف والاحتفال بالأهداف لصالح صوت مونوتوني يبدو وكأنه طنين آلي ترتفع حدّته حيناً وتتراجع أحياناً أخرى ولو أنها تبقى مغطّية على كل صوت، ومزعجة في أكثر الأحيان...




في صدمتَي البطولة
لعل الصدمتين الكبيرتين في هذه البطولة هما خروج إيطاليا من الدور الأول، وسوء الأداء الانكليزي المفضي خروجاً من الدور الثاني.
والتدقيق في أسباب المفاجأتين يؤشّر الى أزمتين تعيشهما الكرتان الإيطالية والانكليزية يفيد التوقّف عندهما.
فإيطاليا لم تُظهر أداءها المعهود القائم على التماسك في الخط الخلفي وصنع الفرص انطلاقاً من منتصف الملعب حيث النجوم في العقدين الماضيين غالباً ما لعبوا بطريقة 9 ونصف (أي هم مزيج من رقم 10 كصنّاع ألعاب ورقم 9 كرؤوس حربة هدّافين – من باجيو وزولا الى دل بييرو وتوتي وصولاً الى بيرلو)، ويحرّكون خط الهجوم حيث قنّاصي الأهداف الفعّالين (ولو من دون علوّ كعب في الفنّيات أو في المخيّلة الهجومية)... على العكس من ذلك، بدا المنتخب الإيطالي ثقيلاً عاجزاً عن فرض أي أسلوب لعب، يقاتل على مدى الدقائق لانتزاع التعادل، دفاعه بطيء تتفاوت المسافات بين أفراده، ارتقاؤه في الهواء محدود (وقد تلقّى في أول مباراتين - في مجموعة كانت تعدّ سهلة - هدفين من كرتين ثابتتين لم يقطعهما المدافعون)، والربط بين خطوطه شبه معدوم، إذ أن وسطه ضائع بين مهمة الارتداد الدفاعي وبين محاولة السيطرة على منطقة التمويل التي كثّف على الدوام خصومهم حضورهم فيها، مما ترك المهاجمين من دون تمريرات خطيرة ومن دون كرات في العمق يستطيعون الاستفادة منها. ولولا الدقائق العشرين الأخيرة التي تلت نزول بيرلو أرض الملعب في المباراة الدراماتيكية ضد سلوفاكيا، لما أمكن لأحد تذكّر شيء من الأداء الإيطالي.
والأرجح أن خيارات المدرّب ليبي كانت محدودة (ولو أنه يتحمّل مسؤولية اختيار دفاع اليوفنتوس الذي سبق وظهر في الدوري مهتزّاً، ولم يكن في المنتخب على قدر المسؤولية): فعدد من اللاعبين معتزل دولياً (مثل توتي) وعدد آخر مصاب (مثل بيرلو الذي لعب في آخر مباراة) وجيل ال2006 الذي فاز بالكأس مترهّل لكن الجيل الشاب لا يملك الخبرة للحلول مكانه كون لاعبيه يلعبون كاحتياطيين في نواديهم المتّكلة على النجوم الأجانب. ومثال إنتر ميلانو بطل الدوري والكأس الإيطاليين وبطل الأندية الأوروبية مؤشر للأزمة، إذ فيه 11 لاعباً أجنبياً أساسياً من أصل 11! ونجوم وصيفه روما وثالث الترتيب ميلان هم أيضاً أجانب أو إيطاليون تقدّموا بالسن. وهذا يعني أن الكرة الإيطالية في مأزق، ويحتاج المنتخب الى إعادة بناء وتجديد قد تكون السنتين القادمتين (خلال تصفيات بطولة أوروبا 2012) مناسبة للقيام بها.
أما إنكلترا، فتحليل وضع فريقها يبدو أكثر تعقيداً. ذلك أنها قدّمت مباريات قوية في التصفيات المؤهلة الى كأس العالم. ولاعبوها هم نجوم نواديهم وليسوا أقل شأناً من الأجانب بينهم، كما أن مدرّبهم كابيلو هو من أكفأ المدرّبين في العالم. فما الذي أصابهم؟
يجدر القول بداية إن المنتخبات الانكليزية لم تبل بلاء حسناً في أي كأس عالم غير الذي فازت به سنة 1966، والذي حلّت فيه رابعة عام 1990. كما أن إنكلترا هي الدولة الوحيدة ذات العراقة بكرة القدم (وُلدت اللعبة فيها) التي لم تفز أي مرة ببطولة الأمم الأوروبية (فازت بها ألمانيا 3 مرات، وإسبانيا وفرنسا مرّتين، وكل من الاتحاد السوفياتي وإيطاليا وتشيكوسلوفاكيا وهولندا والدانمارك واليونان مرة واحدة). والمنتخب الحالي دخل كأس العالم والجميع يطالبونه بالقطع مع ماضي الخيبات، كما أنه اعتُبر من المرشحين للّقب وقيل إن الانضباط الذي غالباً ما كان يفتقده صار مؤمّناً مع كابيلو، وأن خط وسطه يصعب على أي منافس ضبط إيقاعه أو منعه من فرض أسلوب لعبه. فإذا به يدخل المسابقة خائفاً من الحمل الكبير، بحارس مرمى ضعيف (قدّم هدف التعادل هدية للفريق الاميركي في المباراة الأولى)، بظهيرين لم يكونا على مستوى الآمال المعقودة على اندفاعاتهما في المواكبة الهجومية، بإصابات لم يشفَ منها نجم الهجوم روني وأبعدت القائد فرديناند، وبارتباك عدد من لاعبيه لأسباب شخصية (تيري) أو لكونهم يلعبون في المراكز نفسها وعليهم إيجاد مساحات أخرى يتحرّكون فيها كي لا يضيّعوا جهوداً بلا طائل (جيرارد ولمبارد). والأهم ربما، بمعدّل أعمار مرتفع (حوالي 28 عاماً) وبإنهاك بدني بعد موسم إستثنائيّ التنافسية في الدوري الانكليزي بين 7 فرق لاعبوها هم عماد المنتخب.
وأضيف الى كل ذلك، أن الإنكليز لم يتمكّنوا سوى من احتلال المركز الثاني في مجموعتهم، مما وضعهم في مواجهة ألمانيا في الدور الثاني، وهي تملك فريقاً شاباً (معدّل أعماره 24 عاماً) شديد الانسجام، يلعب متحرّراً من أعباء المراهنات عليه إذ هو يطمح للعب أدوار مستقبلية، ويقدّم كرة هجومية فاجأتهم سرعتها وفعاليتها، وضاعف من صعوبة وضعهم سوء التحكيم الذي ألغى لهم هدفاً كان ربما كفيلاً بمدّهم بجرعات ثقة تعيد لخبرتهم اعتبارها على حساب النضارة الألمانية. لكن ذلك لم يحدث، فخرجوا خروجاً مهيناً بهزيمة 1 – 4 أنهت المسيرة الدولية لعدد كبير من لاعبيهم (سيكونون فوق الثلاثين من العمر بعد عامين)، وفتحت الباب أمام ضرورة البحث عن لاعبين جدد يضخوّن الحيوية في فريق تنتظره مجموعة صعبة في تصفيات أوروبا.


في أوضاع عدد من المنتخبات العريقة

1- البرازيل:
تدخل "السيليساو" كأس العالم كل مرة مرشحة أولى للتربع على عرش الكرة. فهي صاحبة الأرقام القياسية في عدد مرات الفوز (خمس مرات) وعدد مرات الوصول الى النهائي (7)، وهي المنتخب الوحيد الذي لم يغب مرةً عن البطولة منذ انطلاقها قبل 80 عاماً.
ولم تشذّ الحال هذه المرة عن القاعدة المذكورة، خاصة وأن البرازيليين قدموا بقيادة مدرّبهم دونغا الى جنوب أفريقيا بعد أن تصدّروا ترتيب الفرق الأميركية الجنوبية في التصفيات وهزموا الأرجنتين في عقر دارها، وأحرزوا في السنتين الماضيتين كوبا أميركا وكأس القارات، وفازوا في جميع مبارياتهم التحضيرية، وبدا أن الفريق متماسك فعّال ولو أنه لا يقدّم على الدوام كرة قدم جميلة (على مذهب منتخب ال1994 الذي قاده دونغا لاعباً).
ومع انطلاق البطولة، تأهلت البرازيل بسهولة الى الدور الثاني رغم أن مجموعتها كانت تعدّ الأقوى، ومنه الى الدور الربع نهائي، وبدا أنها في وضع جيد للتقدّم نحو نهائي البطولة. غير أن الشوط الثاني من مباراتها مع هولندا كشف ثغرات ونقاط ضعف يتحمّل دونغا كما لاعبوه مسؤوليتها.
فبعد شوط أول هو أفضل ما قدّمه الفريق منذ بدء المسابقة وبدا خلاله صانع الألعاب كاكا في طور استعادة مستواه وقدرته على التمرير والتسديد وسحب المدافعين باتجاهه لخلق مساحات لزملائه، تراجع البرازيليون بعد الاستراحة أمام الاندفاعة الهولندية (المتوقّعة لفريق متأخّر بالنتيجة)، وظهر أنهم لا يحسنون اللعب تحت الضغط، وأن صلابتهم الدفاعية متحرّكة - أي أنها قائمة خلال اللعب وفي الحركة وليس خلال التعامل مع الكرات الثابتة. ثم بان بعد تسجيل الهولنديين هدفين بظرف دقائق، أنهم فقدوا التركيز والقدرة على فرض أسلوبهم من جديد بغية التسجيل والعودة الى أجواء اللقاء. فصارت كراتهم طويلة بلا طائل، وتحرّكاتهم عصبية وقدرة وسط الملعب على إعادة التوازن الى الأداء معدومة، وحتى المهارات الفردية لم تعد كافية للاختراق وخلق الفرص.
الأنكى، أنه ظهرت الحاجة الى لاعبين بدلاء قادرين على إدخال أوكسيجين جديد الى المباراة ورفع وتيرة الضغط الهجومي، فتبيّن أن لا وجود لمثل هؤلاء على مقعد الاحتياط، فلم يحاول دونغا اللجوء الى من اختارهم ولم يستنفد تبديلاته، وصار الكلام عن خطأ استبعاده رونالدينيو وباتو ونيمار محقاً لأن من أتى بهم الى الوسط المهاجم وخط الهجوم لم يُظهروا ما يشير الى أفضليّتهم على من جرى إهمالهم...
المؤسف أن البرازيل خرجت نتيجة سوء تدبير في شوط واحد، شاءت الظروف أن يكون شوط المباراة الثاني في ربع النهائي...



2- الأرجنتين:
تأهّلت الأرجنتين الى كأس العالم بشق النفس واحتلّت المركز الأخير بين الفرق المتأهّلة مباشرة عن أميركا اللاتينية. ورغم وجود ميسي أفضل لاعب في العالم في صفوفها محاطاً بلاعبين مميّزين آخرين، لم تبرز قبل النهائيات ولم يظهر على أدائها ما يشير الى قدرتها على التهام الفرق المنافسة. ومع ذلك، عبّرت مبارياتها الأولى عن إيجابيات عدة وعن طاقة هجومية وتهديفية كبيرة. لكن الارجنتين لم تلعب بمستوى تكتيكي عال، بل اتّكلت على القدرة الفردية للمهاجمين على إصابة المرمى، وتأكّد أكثر من ذي قبل عجز مارادونا (اللاعب الأسطورة في تاريخ كرة القدم) عن لعب دور فني في قيادة فريقه يتخطّى نجوميّته الشخصية الجاذبة للاعبين وأبويّته معهم.
ولعل المباراة مع ألمانيا، وهي كانت التحدّي الجدّي الأول بعد عبور المكسيك بتفوّق فردي (وليس جماعي) وبخطأ تحكيمي فادح، كشفت محدودية قدرة الفريق على تبديل أسلوب لعبه حين يجانبه التوفيق.
فرغم امتلاكهم الكرة في أكثر فترات المباراة، لم يصنع الأرجنتينيون فرصاً كثيرة، ولم يتمكّنوا بعد تأخرهم بهدف من تعديل أسلوب لعبهم لإحراز التعادل، بل استمرّوا على نفس المنوال مندفعين الى الأمام بفراغات كبيرة وغير متناسقة في الخلف مكّنت الهجمات الألمانية المضادة المعدودة من القضاء عليهم وتسجيل 3 أهداف في شباكهم، هدفان منها نتيجة فقدانهم الكرة في منتصف الملعب وهم في تمركز هجومي يصعب التراجع المنظّم عند انكساره، ويضطر المدافعون الى العودة وظهورهم الى المهاجمين الخصوم مما يفقدهم نصف القدرة على قطع الكرات واستباق التمريرات في العمق.
ويمكن الجزم إن تعطيل ميسي في محيط منطقة الجزاء وإلزامه العودة الى منتصف الملعب لامتلاك الكرة قبل السعي الى اللعب الطولي باتجاه المنطقة الألمانية أنهى الأمل في اختراقاته أو تسديداته المباغتة أو تمريراته البينية التي اعتاد النجاح فيها، لأنه أعطى لاعبي الوسط والدفاع الألمان مسافة 30 متراً للتعامل معه على مرحلتين. وهذا ما لم يتمكّن ميسي من التخلّص منه، ولم تتح له التبديلات التي قام بها مارادونا تغيير الوضع والتحرّر من الضغط المباشر والتراجع لإطلاق الهجمات.
ومن المفيد التذكير أن مورينيو مدرّب الإنتر سبق واعتمد الأسلوب نفسه مع ميسي وبرشلونة في مباراتي نصف نهائي بطولة النوادي الأوروبية ونجح الى حدّ كبير في ذلك، وأعطى بالتالي أفكاراً للمدرّبين في سبل التعامل مع صناعة اللعب الميسية...
بذلك خرجت الأرجنتين من الربع النهائي، تماماً كجارتها اللدودة البرازيل، ولم ينجح مارادونا – كما دونغا – في تحقيق إنجاز الفوز بكأس العالم كمدرّبين بعد فوزهما بها كلاعبَين عامي 1986 و1994 على التوالي.

3- ألمانيا
قدّمت ألمانيا كأس عالم جيد، خاصة في الدورين الثاني والربع نهائي، وأظهرت شباباً مستجدّاً (المنتخب الحالي هو صاحب معدّل السن الأصغر لمنتخبات ألمانية منذ العام 1934)، معطوفاً على سرعة ولياقة لاعبيها المعهودة.
ونجح المدرّب الألماني لوو في إدارة لاعبيه وتعزيز الثقة والروح القتالية عندهم، ولو أنه أخفق تكتيكياً في التعامل مع اللعب مرتين: ضد صربيا الفريق المتوسّط المستوى الذي هزم الألمان في الدور الأول وكاد يطيح بهم، وضد إسبانيا الفريق الأقوى في البطولة الذي خنق المنتخب الألماني تماماً في النصف نهائي وفرض عليه من أول المباراة ولآخرها أسلوب لعبه ومنعه من التصرف بالكرة وبناء الهجمات.
ومن الممكن القول إن خبرة أكثر اللاعبين الألمان ما زالت متواضعة نظراً لصغر سنهم، وإنهم فريق للمستقبل سينافس الإسبان على الكرة الأوروبية في بطولتها بعد عامين (في ظل التخبط الإنكليزي والإيطالي).
وهم رغم ذلك لعبوا من دون خوف أو رهبة، وقدّموا في أكثر المباريات أداء هجومياً مثيراً كثرت فيه الكرات في العمق واللعب الطولي والتسديدات البعيدة والرفعات نحو منطقة جزاء الخصم التي أثمرت جميعها 16 هدفاً جاعلة الهجوم الألماني الأكثر تسجيلاً في البطولة.
وينبغي التوقّف عند أمرين في هذا المنتخب الألماني:
الأول، استناده الى مثلّث قوي في خط الوسط يجمع مزايا السرعة والقوة البدنية (شفينزتيغر) والمهارة في صنع الهجمات وتمرير الكرات البينية (أوزيل) وضبط الإيقاع الدفاعي Recuperation في أول المنطقة الألمانية للانتقال السريع الى الوضعية الهجومية (خضيرة). وبناء على المزايا هذه، ليست صدفة أن مورينيو يريد خضيرة في ريـال مدريد، وأن أرسن فنغر يريد أوزيل للأرسنال، وأن البايرن أعلن رفضه التخلي عن شفينزتيغر.
الأمر الثاني، بروز ثقافة جديدة في الكرة الألمانية، هي ثقافة التنوّع، وهي بلا شك انعكاس لثقافة اجتماعية ذات صلة بالهوية الوطنية، عكست نفسها من خلال الوجود الدائم لخمسة لاعبين (أو ستة وأحياناً سبعة) من أصل ال11 الأساسيين من أصول مهاجرة (بولونية وتركية وبرازيلية وغانية وتونسية). وهذا أمر يعكس تطوّراً كبيراً في ألمانيا القرن الواحد والعشرين، بعيداً عن الصورة السخيفة التي يتعلّق بها بعض البلهاء من مشجعي ألمانيا خارج حدودها، من ربط لفريقها "المانشافت" بمخيّلة نازية أو قومية شوفينية يخجل بها معظم الألمان ويعدّونها إهانة لهم وهم الذين اشتغلوا أكثر من كل شعوب الأرض على ذاكرتهم لفهم أسباب "تحوّل قسم من أهلهم وأجدادهم الى وحوش" على ما يردّدون في ندواتهم بحزن وخجل.
ألمانيا ثالثة في كأس العالم، نتيجة جيدة لجيل جديد من اللاعبين.

4- هولندا:
لطالما عانت هولندا من مشاكل "الأيغو" المتضخّم لنجومها، ولنزعاتهم الفردية الدائمة، وللعداوات في صفوفهم بين لاعبي فيينورد وأجاكس أمستردام. وحتى حين كان المنتخب الهولندي يلعب في ظروف جماعية جيدة، كانت التعليقات تشير الى تحكّم عقلية بروتستانتية بأداء لاعبيه، وبثقافة كرة القدم عندهم، تقوم على الحثّ على القيام بالجهد والعمل بمعزل عن النتيجة وقطف الثمار. فكان اللاعبون يقدّمون العروض القوية ثم يخسرون!
على أن المنتخب الهولندي بُني هذه المرة على أساس الطلاق مع كل ذلك. منتخب فيه النجوم والأقل نجومية، وفيه الانسجام واللعب وفق نظرية واحدة: تسجيل الأهداف بمعزل عن الأسلوب وعن جودة اللعب، والاتّكال في ذلك على أفراد ذوي خبرة عالية في 4 بطولات أوروبية (سنايدر في الإنتر الإيطالي، روبن في بايرن الألماني، وفان برسي وكويت في الأرسنال وليفربول الإنكليزيين، إضافة الى فان فارت في الريـال الإسباني).
وبالفعل، فقد أبلى هذا الخماسي في وسط الملعب والهجوم بلاء حسناً، إذ تميّز أعضاؤه بالروح القتالية وبالتسديدات القوية والقدرة على المباغتة من الميمنة كما من الميسرة، وبالسرعة في خلق الفرص حتى ولو لم يكن التموضع الخطير ظاهراً للوهلة الأولى. وأثبتوا ذكاءً في اللعب (هو ميزة سنايدر) يؤدّي الى فاعلية هجومية في لحظة غير متوقّعة تعوّض الضعف الدفاعي البارز – اهتزّت الشباك الهولندية 4 مرّات في المباريات الثلاث الأخيرة.
وبهذا استحقّت هولندا مركزها الثاني، ولو أن الروح الرياضية للاعبيها في المباراة النهائية كانت في أسوأ حالاتها. وهي في أي حال لم تفكّ عقدة خسارة النهائي بعد تجربتين مماثلتين عامي 1974 و1978.
تبقى الإشارة السريعة الى فريق خامس هو فرنسا خرج من الدور الأول بهزيمتين وتعادل. وهو قدّم ما استطاع إليه سبيلاً في ظل تواضع كفاءات لاعبيه الفردية والجماعية وكثرة الخلافات بينهم، وإدارة مدرّب محدود الكفاءة والخبرة لفريقهم.



عن الكرة الإسبانية: الجيل الذهبي
لا شك أن إسبانيا هي المنتخب الأفضل في العالم منذ أكثر من ثلاث سنوات. وهو الأفضل إذا أخذنا مراكز اللعب واحداً واحداً، والأفضل إن نظرنا الى الانسجام وحسن التعامل مع المباريات وفرض أسلوب اللعب والسيطرة على الكرة. كما أنه الأفضل إن أخذنا بالإحصاءات لجهة عدد التمريرات السليمة في كل مباراة يخوضها، وإن نظرنا الى فوزه في 43 مباراة لعبها من أصل 45 منذ آخر العام 2006 ولغاية اليوم (بينها خسارته المفاجئة والتي لم تؤثّر عليه في بداية مشواره في كأس العالم ضد سويسرا).
وأسباب التفوّق الإسباني مرتبطة بثلاثة أمور أساسية:
- أوّلها أن أبرز لاعبيه يلعبون سوياً منذ 10 سنوات حين كانوا في منتخب ما دون ال20 عاماً وفازوا بكأس العالم للفئة العمرية المذكورة، وأنهم انتقلوا سوياً الى المنتخب الأول ففازوا معه ببطولة أوروبا عام 2008. كما أن أكثرهم يلعب في ناديين لا ثالث لهما: برشلونة، وقد شارك 6 لاعبين (وأحياناً 7) كأساسيين منه، وريـال مدريد، وقد شارك منه 3 لاعبين كأساسيين بينهم كابتن الفريق. ويضاف الى هؤلاء نجوم من فرق فالنسيا وفياريـال وأتليتكو بلباو وإشبيلية وليفربول وأرسنال. لذلك، فمستوى الانسجام بين اللاعبين عال جداً والعلاقة بينهم ودّية على عكس ما كانت عليه في الجيل الذي سبقهم بحيث كان التوتر سمة التواصل المدريدي- الكاتالاني - الباسكي.
- ثانيها، اعتماد أسلوب لعب في وسط الملعب مركز ثقل الماكينة الإسبانية شبيه بأسلوب برشلونة في سنواته الأخيرة، حيث الاتّكال على التمريرات القصيرة والسريعة والسيطرة على الكرة وتنويع خيارات التمويل وتحرير المهاجمين من الرقابة اللصيقة، وإحباط الخصم ودفعه الى استنزاف جهوده بالجري بحثاً عن قطع الكرة عوض التفكير في بناء الهجمات. وهذا أتاح لصانعي الألعاب البرشلونيين شافي وإنييستا التصرّف من دون ضغط أو شعور بضرورة التكيّف مع أسلوب جديد. والأهم، أنهم استوعبوا درس خسارة ناديهم ضد الانتر وتجنّبوا محورة اللعب حول عدد محدود من اللاعبين إن شُلّت فاعليّتهم انعدمت إمكانيّات التهديف، لذلك شهدنا شافي مثلاً يمرّر ما معدّله 55 كرة في المباراة الواحدة الى 7 لاعبين على الأقل.
ورغم أن إدارة الفريق والجهاز الفني مدريدية بكاملها، ديل بوسكي ومعاونه أنطونيو غراندي أمضيا في ريـال مدريد 35 عاماً كلاعبين وفنّيين ثم مدرّبين، وفرناندو هييرو مدير المنتخب كان قائد الريـال على مدى سنوات، إلا أن عدم خشيتهم من اعتماد أسلوب برشلونة ساهم أيضاً في تعزيز روحية المجموعة.
- ثالثهما، الثبات على خطة 4 – 2 – 3 – 1، التي تحفظ توازن الخطوط بأربع مدافعين وبلاعبَي وسط إثنين للإستعادة وإطلاق الماكينة وبثلاثة لاعبي وسط ذوي مهارات عالية وتمريرات متقنة ونزعة هجومية، وبرأس حربة حر التحرك في منطقة جزاء الخصم، مع قدرة على إنزال بدلاء في أي لحظة وفي معظم المراكز لا يقلّون كفاءة عن الأساسيين.
ورغم انتقادات يوهان كرويف نجم برشلونة السابق لاعباً ومدرباً، ولويس أراغونيس مدرب إسبانيا الفائزة بكأس أوروبا 2008 للخطة الموضوعة التي برأيهم تبطّئ اللعب في منتصف الملعب مع وجود لاعبَين متراجعَين (Recuperateurs) وتضيّق المسافات أمام المتصرّف بالكرة، إلا أن ديل بوسكي أثبت صوابية خياره لأن استعادة الكرة بعد لحظات من خسارتها أمّنت للفريق على الدوام راحة دفاعية وقدرة على السيطرة (لم تشهد معدّلات استلام إسبانيا للكرة في أي من مبارياتها في الكأس نزولاً عن حافة ال57 في المئة) ثم بناء الهجمات وانتظار أخطاء تمركز الخصم لخلق الفرص. كما أن تحرّك شافي ألونزو الدائم ومواكباته الهجومية زادت باستمرار الضغط على دفاعات الخصوم، فيما كان ارتداده السريع لملاقاة بوسكيتس في قطع الكرات وتمريرها الى شافي وإنييستا مفتاحاً للفعالية في وسط الملعب.
ويقيناً لو كان توريس في مستواه المعهود قبل سلسلة إصاباته لشكّل مع دافيد فيا ثنائياً يصعب على أي دفاع التعامل معه.

المهم أن الفريق الأفضل في العالم وفي البطولة فاز بالكأس، وأعاد الاعتبار الى كرة القدم بوصفها نضجاً تكتيكياً ومتعة وخبرة وخلق فرص أكثر منها مجرّد نجومية أفراد أو قوة بدنية ولياقة عالية....
... كأس العالم 2010 انتهت. والانتظار بدأ منذ الآن لانطلاق البطولة القادمة التي ستُفتتح في 12 حزيران عام 2014 في البرازيل، قُبلة كرة القدم المرصّعة بالنجوم الخمس (على عدد المرات التي فازت بها "السيليساو" بالكأس)...
كل مونديال ومحبي كرة القدم بألف خير...
زياد ماجد