إنطلق كأس العالم لكرة القدم منذ أيام، لتصبح مبارياته حديثاً يتقدّم السياسة والسياسيين ويهمّش الاصطفافات التقليدية محوّلاً إياها الى اصطفافات حول كرات وشباك ولاعبين.
إنطلق المونديال ليحرّرنا من رتابة وليعيد تحريك النبض إثارة وحماساً مع هدف هنا وتمريرة جميلة هناك.
وانطلق كأس العالم ليجعل ملياراً من البشر أو أكثر متشابهين في انفعالاتهم، ولو للحظات، بمعزل عن عروقهم وأديانهم وطبقاتهم ومصائب بعضهم أو أفراح بعضهم الآخر. يُطربون معاً للعبة ساحرة أو لاهتزاز شباك، ويتحسّرون سوياً لإهدار فرصة أو ارتكاب خطأ ويتأفّفون جماعةً من حكم أو من مدرّب، فتنضبط أوتارهم الصوتية في أداء "كوراليّ" منسّق وتتحرّك أكتافهم وأذرعتهم برشاقة صعوداً أو هبوطاً أو تلويحاً أو أسفاً.
هي لوحة شعبية ترسمها كرة القدم كل أربع سنوات، ذوّاقوها هم صانعو ألوانها، وهم أنفسهم "أصحابها". لوحة تزداد تألّقاً حين تتراقص على أنغام حبّ لدوران كرتها، ويُغنيها أن تُنسج في بلاد هي خبزها الثاني. وإذ تقام هذا العام في جنوب أفريقيا، بلاد القضاء على "الأبارتيد" وبلاد التحدّيات والآمال العريضة، فهي تكتسب أبعاداً جديدة إذ تحوّل المدرّجات التي كانت على مدى عقود ممنوعةً عن أكثر أهل البلاد الى ملتقى للأقوام والأعراق والى مكان لتكريس انتهاء كل فصل وكل تمييز
... شهر إذن من الفرح والخيبات الجميلة سيمرّ علينا سريعاً. شهر من الطقوس أمام الشاشات أو في الملاعب سيعطي الناس استراحة من أمور كثيرة. لن تعكّره لا سماجة "الفوفوزيلا" (أو الزمامير المصدرة أصوات الفيلة) المغطّية أحياناً على أصوات الجمهور وآهاته، ولا بُعد المتفرجين النسبي عن أرض الملاعب وعن جماليات تشابك أياديهم بأيادي اللاعبين.
المهمّ أن نعيش المونديال حتى آخره بمتعة وشغف وشماتة وغيرة وقلق، وأن نخاطب اللاعبين وكأنهم أصدقاء نمون عليهم ونوجّههم، نفرح لفرحهم ونغضب لغضبهم ونحزن لحزنهم.
والأهمّ، أن نُبقي على هذا الرابط البديع الذي يتسبّب بابتسامة صباحية عند سماع تعليق في الشارع يعيد عبره مجهول تركيب مَشاهد الأمس كما رآها أو كما تمنّى رؤيتها، فنجيبه بإيماءة الموافِق أو بكلمة ترطّب خاطره وتتمنى له ولنا ظفراً قادماً...
كل مونديال وأنتم بخير.
زياد ماجد