لم يكن تاريخ 16 آذار 1977 تاريخاً لاغتيال كمال جنبلاط فحسب، بل كان كذلك تاريخاً لتأسيس صفحة جديدة في الحرب الأهلية اللبنانية وافتتاحاً لإدارة إقليمية مباشرة لها. إدارة تقوم أولاً على الاغتيال السياسي ثم على التصرّف وكأن الاغتيال كان ردعاً للمغدور أو تجنّباً للأضرار التي يمكن لحياته إن طالت أن تحدثها. وعلى ذويه التسليم بذلك وتجاوز الدم حفاظاً على أرواحهم ومنعاً لتفاقم الأمور في ديارهم. لا بل أكثر من ذلك، عليهم الاعتذار عن أفعال المغدور وعن دمه ثمّ الكفّ عن تذكّره حرصاً على سمعة قاتله...
بهذا المعنى، يمكن تفسير ما قاله المسؤولون السوريون لوليد جنبلاط بعد أربعين والده من أن كمالاً أراد الحسم العسكري في لبنان ولم يقبل بالمسعى السوري لإنهاء الاقتتال، ووصف سوريا بأنها "سجن كبير"... وبهذا المعنى أيضاً، يمكن تفسير ما سرّبه بعض المحسوبين على النظام السوري من أن رفيق الحريري تآمر مع مروان حمادة وآخرين لاستصدار القرار الأممي 1559 وإخراج الجيش السوري من لبنان. وبهذا المعنى أيضاً وأيضاً، قيل إن سمير قصير تجاوز الخطوط الحمر إذ كتب في الشأن السوري الداخلي وربط استقلال لبنان بديمقراطية سوريا... وفي كل هذا ما استدعى، مرة بعد مرة، تدابير اضطُرّت المعنيين الى الاستئصال منعاً للتمادي وذوداً عن الاستقرار...
على أسس "القتل الوقائي أو التأديبي" إذن، قامت في لبنان معادلة "الدم أو الرضوخ" لعقود ثلاثة خلت
وإن كان من فضل كبير ليوم 14 آذار 2005 (بمعزل عن أي نقاش في وظائفه السياسية والطائفية الداخلية)، فهو أنه أسقطها وأسقط التهويل والتخويف بها، ورفض الاستسلام لمقولة إن المقتول مذنب وليس القاتل، وإن الصمت والرضوخ هما السبيل الأمثل لتفادي استجلاب المزيد من الهلاك والفتن.
*****
... واليوم في 16 آذار 2010، بعد 33 عاماً على الجريمة التأسيسية، وبعد 5 سنوات على إسقاط المعادلة المبنية على ذاك التأسيس، يجدر ربما تأكيد أمر واحد بعيداً عن كل سجال وتبرير أو هجاء وتعريض: أن النسيان والمسامحة لا يحلّان مشكلة ولا ينتجان معادلات جديدة.
فالمسامحة يمكن أن تتمّ بعد المحاكمة أو بعد اعتراف القاتل بجرائمه واعتذاره عنها. أما النسيان فلا يغيّر في شيء ما قد حصل. وهو في أحسن الأحوال، يسمح لمن يريده أن يلغي من ذاكرته حدثاً، لكنه في ذلك لا يلغي الحدث نفسه، ولا أطرافه ووجوهه.
والأهمّ، لا يلغي حقيقة أن ثمة من لن ينسى ومن لن يفضّل المسامحة على العدالة، ولا حتى على البعض منها، ولو بعد حين...
زياد ماجد