ليس موضوع الأقليات جديداً في العالم العربي ولا هو خاص به.
فالموضوع يرتبط أساساً بالهجرات وبتكوّن الأمبراطوريات وتوسّعها، ثم بولادة الأفكار القومية ونشوء الكولونيالية وقيام الكيانات الوطنية وترسيم حدودها. وهو يرتبط كذلك بمفاهيم الهويّات والانتماءات الأولية، ويحضر اليوم بوصفه قضية على قدر من الخطورة ومن الارتباط بالنزاعات الدائرة في الكثير من نواحي الأرض، من البلقان وأفغانستان وإندونيسيا والفيليبين وماليزيا وسيريلانكا الى الصين والاتحاد الروسي وأكثر البلدان الأفريقية. هذا إضافة الى وجوده تحت مسمّيات أخرى في بلدان أوروبية وأميركية عدّة.
على أنه في منطقتنا العربية، ولا سيما في مشرقها، يرتدي أهمية استثنائية. ذلك أن ميراثنا اللغوي والسياسي احتضن في القرون الماضية مفهوم "الأمة" بوصفه المفهوم الجامع ذا المشروعية الدينية والدنيوية التي وجب الاستناد إليها لإعلاء شأن أو إسقاط آخر.
فالأمة الإسلامية كانت الوعاء البشري والجغرافي الحاضن للخلافة الإسلامية القائمة أو الافتراضية، والأمة العربية كانت الإطار المشتهى لمرحلة ما بعد الكولونيالية وللتعبير عن صعود مشروع "ترابي" (وإن بقيت علاقته بالإسلام ملتبسة) يزيل حدوداً اعتبرها اصطناعية وتآمرية...
بهذا، ظلّت "الوطنيات" تدابير مؤقتة وصارت المغالاة فيها - إن لم تكن موجّهة الى عدوّ خارجي- صنو الانعزال أو الردّة أو التخلّي عن "الوطن الأكبر".
حتى أن القضية التي يدّعي أنصار الأمة إجماعاً على أولويتها، قضية فلسطين، عُيّب على أهلها اتّخاذها هويةً لهم واتُهم زعميهم ياسر عرفات بالخيانة لتمسّكه بالقرار الوطني المستقل، أي ذاك الرافض مصادرة الأنظمة العربية له بذريعة "القضية القومية" وأولويات الأمة وسواها من مفردات استهلكتها تيارات وقوى قابضة على سلطات بلادها منذ عقود.
وإن كان الكلام بالوطنيات وبالانتماءات ما دون القومية يثير شبهات انعزال، فكيف إذن بالكلام في قضايا الأقليات؟
يبرز هنا مستويان للمقاربة.
الأول، يُكمل ما سبق ذكره من زجل قومي/إسلامي سقيم ويضعه في مرتبة هجاء أعلى شأناً. فما جرى اعتباره انعزالاً في حالة التخلي عن المشروع الوحدوي لصالح وطنيات وأولويات محلية، يصبح في حالة الكلام على حقوق الأقليات "إدخالاً للوهن الى جسم الأمة وتنفيذاً لأجندات خارجية تبحث عن تفتيت المفتّت حماية لإسرائيل وتبريراً لوجودها".
أما الثاني، فمرتبط ببعدين قامت عليهما السلطة في عدد من البلدان ذات الشعارات القومية، وبالأخص في سوريا والعراق البعثيَّين. فالاستبداد الحاكم في كلا البلدين وحزبه الحامل شعارات تتخطّى الحدود، اتّخذ من فكرة الصَهر للناس خلف قيادته مسلكاً، ورفض البحث في التنوّع والتعدّد وهو القائل أصلاً إن قومه ما هم إلّا جزء من شعب قَسّمت حدود المعاهدات الاستعمارية وطنه الأكبر. وهو في الوقت نفسه – وفي الحالين - أقلّوي لجهة الانتماء المناطقي أو الطائفي، يتجنّب إثارة المسائل الأقلّوية إلا إن اضطر لاستنفار "الجماعة" المنبثق منها وتجييشها ضد الجماعات الأخرى حماية لمكتسبات وفّرها لنخبها، على نحو ما جرى في سوريا في بداية الثمانينات، وفي العراق طيلة التسعينات.
أما في مصر، حيث للوطنية حضور تاريخي قد يكون الأوسع بين الدول العربية، فمسألة التعامل مع الأقلّيات متّصلة على الأرجح بالتنافس على الحقل الديني بين السلطة السياسية والسلطات الدينية خارج المؤسسة الرسمية (أي خارج الأزهر). ومتّصلة أيضاً بمشاعر تعصّب طائفي مرافق لصعود بعض التيارات الإسلامية في مناطق يغلب عليها الطابع الريفي، ويتراجع على نحو مروّع حضور الدولة وأجهزتها غير المخابراتية فيها. وما الاعتداءات التي يتعرّض لها الأقباط منذ أيام سوى طور أشد بشاعة من طور الحملات التي تستهدفهم عشية كل انتخابات تشريعية وتُفضي رسوباً لجميع المرشحين من بينهم.
وفق معادلات كهذه، يمكن أن يتوقّع المرء المزيد من التهتّك والتطرّف والصدامات في الكثير من أراضي الناطقين بالضاد، ارتباطاً بمسألة الأقليات أو بمسائل الانتماءات القبلية والعشائرية والطائفية في ظل إدارات سياسية وأمنية قوامها غالباً القمع والفساد، وفي ظل غياب الحد المقبول من التعاقدات الاجتماعية والقوانين والممارسات المستندة إليها. وهو غياب لا يبدو أن غروبه حاصل في الأفق القريب...
زياد ماجد