Tuesday, January 5, 2010

ليس قضاء "البعث" قدراً

تتوالى تصريحات المدير السابق للأمن العام اللبناني ومؤتمراته الصحافية منذ خروجه من السجن قبل أشهر وإعلانه عن عزمه تولّي وزارة العدل... كما تتوالى زياراته الى العاصمة السورية للقاء المسؤولين فيها ولرفع الدعاوى أمام محاكمها ضد سياسيين وصحافيين وأمنيين وقانونيين لبنانيين وضد مواطنين عرب وأجانب.

وبقدر ما تثير تصريحات المدير السابق المذكور التندّر حين تركّز على التشكيك بصدقية القضاءين اللبناني والدولي لتبرير اللجوء الى "قضاء البعث" (على اعتبار أن لا شكّ بنزاهته ولا باستقامة قوانين الطوارئ التي يعتمدها منذ العام 1963 والمفضية كبتاً لأنفاس السوريين واعتقالاً تعسّفياً للآلاف منهم، مثقّفين وقانونيين وصحافيين وطلبة وناشطين سياسيين)، بقدر ما ينبغي التوقّف عند مدلولات الدعاوى، خاصة بعد تحوّل الاستنابات السورية المستندة إليها مادةً إعلامية لبنانية.

ذلك أن ما يُروّج له في بعض الإعلام حول وساطات تركية وسعودية فاشلة لدى الرئاسة السورية لسحب الاستنابات إنّما يهدف الى إظهار "أهميّتها" وخطورتها وعلوّ كعب صاحب شأنها (المدير السابق) ودخول أمم على خطّ التوسّط لديه، ولدى الدولة السورية التى اشتكى الى قضائها، دون أن تصل الوساطات الى نتيجة.

وفي هذا، بمعزل عن التضخيم والمبالغات، رسالة مفادها أن لا وساطة ستحمي بعد الآن من ستسوّل له نفسه الاستمرار في هجاء النظام السوري أو اتّهامه بالموبقات أو انتقاد مرحلة سيطرته على لبنان ورموزها. والغاية القصوى: إعادة بناء جدار الخوف الذي انهار في ساحة الشهداء قبل خمس سنوات، وجعل الصمت وبلع الألسن بالترهيب (أو الترغيب) عنوان المرحلة المقبلة.


على أن ما يجري تناسيه مقابل كل ذلك، وما تساعد ركاكة الطبقة السياسية اللبنانية بمعظم مكوّناتها على عدم تذكّره، هو أن استمرار حاجة نظام دمشق الى التهديد والى إظهار رفض الضغوط لا يعبّر بالضرورة عن قوّته وبأسه.

فرغم فكّ الطوق الذي كان مضروباً حوله، ورغم دعم إيران وتركيا المباشر له وتواطؤ إسرائيل غير المباشر معه، ثم الانفتاح الفرنسي-الأوروبي والسعودي عليه، ما زال النظام السوري عاجزاً عن إحكام الخناق حول بلد صغير يجاوره رغم تحالفاته فيه ورغم حكمه له لعقود. وهو بعد أن كان يتوعّد بتحقيق أكثرية في صناديق الانتخابات النيابية والعودة للهيمنة من خلالها، صار جلّ ما يتباهى به اليوم مصالحة بعض خصومه له واضطرارهم (لأسباب إقليمية أو أمنية) لزيارته.

بمعنى آخر، ليس قضاء البعث الذي يُروّج له اليوم قدراً.

لكن الخفة أو المكابرة عند بعض القوى اللبنانية المناوئة له من جهة، وفائض القوة المسلّح لدى حزب الله المتحالف معه من جهة ثانية، وهشاشة الإجماعات الوطنية اللبنانية المعطوفة على بنية طائفية للنظام تتحوّل عند الاحتقانات شللاً من جهة ثالثة، تتيح له التهديد والوعيد والضغط، وتجعل كل ظرف إقليمي (متفجّر أو مستقرّ) يبدو وكأنه حكماً مؤبّداً على حالة هي بالأحرى، وكما علّمتنا التجارب حتى الآن، مؤقّتة. ذلك أن الصراعات المستمرة في البلد ومحيطه تسمح في كل فصل بتبدّل تحالفات تبدّل بدورها موازين القوى. وللتذكير، فما بدا غير قابل للأفول عام 2004 انقضى عام 2005، وما بدا زهري اللون عام 2005 صار أسوده لاحقاً، وما يبدو هزيمة اليوم لمعسكر يتفكّك سبقه انتصار مدوّ له قبل أشهر.

العبرة من ذلك إذن، تكمن ربما في عدم الاستكانة المتسرّعة لطور سائد، والاستمرار في الدفاع عن الحرية من دون مقايضة، والمحافظة على الهدوء والمثابرة، والاستنتاج يوماً أن تغييراً للمعادلات صار ضرورياً، وأن استقراراً داخلياً حقيقياً لا يمكن أن يظل وقف ارتهان لنظام هنا ولمصالحة أو صدام هناك...

زياد ماجد