ثمة مستويان لقراءة الحملة التي شنّها حزب الله على دعوة مهرجانات بيت الدين للفنان جاد المالح، والتي نجحت في منعه من القدوم الى لبنان والمشاركة في أمسيات كانت بطاقاتها قد نفذت.
- المستوى الأول يرتبط بمعنى المنع عبر الإرهاب المعنوي وحملات التشهير والشتم وتشويه السمعة وغيرها من الأمور التي صار لحزب الله باع طويل فيها، يعتمد أساليبها ضد خصومه أفراداً وجماعات، إن بالمباشر أو بواسطة "الحلفاء". وهي جميعها تأتي من باب التصنيف للناس والرقابة التي يسمح لنفسه باعتمادها مقرّراً حدود المسموح به أو الممكن قوله وفعله في بلد يريد "الدفاع عن أرضه وعن قيمه وعن الحشمة فيه" (على ما ورد في برنامجه الانتخابي)...
قد يقال إن الاتهامات والسعي للرقابة وللمنع لا تقتصر عليه، وتعتمدها في لبنان المؤسسات الدينية كما يحاول اللجوء إليها العديد من القوى السياسية. وهذا صحيح ومُدان وينبغي التصدي له في كل الحالات، ومن دون استثناءات. لكن الحال الحزب إلهية تبقى خاصة. فالحزب يذكّرنا كل ما جهد للمنع أو التخوين أو الابتزاز أنه يقع عند تقاطع خطير يعطف الدين على السياسة والإعلام على السلاح، ويقدّم مشهداً شمولياً يميّزه عن سائر الحالات. وهو يتخطّى بالتالي حدود أي فعل حزبي سياسي أو ديني وعظي، ليتحوّل الى مزيج من السلطات الأمنية والقضائية ذات الصلاحية الرقابية والقمعية المتفوّقة على القانون والمهمّشة له.

ربما يكون لجاد المالح في قرارة نفسه "موقف" من إسرائيل، شأنه شأن الكثير من الفنانين في العالم. والموقف إن كان متعاطفاً فهو مدعاة أسف وتفكّر عميق بأسبابه وبجوانب عدة من المسؤوليات عنه، لمواجهته ولتغييره. لكن المالح لم يقدّم عملاً واحداً فيه إشارة الى الصراع العربي الإسرائيلي، ولم يُعرف عنه موقف أو تُسمع له مقولات تشير الى آراء سياسية متماسكة تستوجب ردوداً. هو كوميدي فحسب، ولا حاجة لمساجلته في شؤون لا يفقه فيها ولا يتدخّل في تعقيداتها، وهي أساساً شؤون تتطلّب منا مقاربة ثقافية وسياسية وإعلامية ليست العنصرية الدينية ولا الخطاب التخويني ولا مشهديات العنف مكوّنات لها...
قلنا في مقال سابق إن الثقافة تأتي قبل السياسة في المعركة الدائرة في لبنان. وها هو القمع من بابه "الثقافي" يعيد تذكيرنا اليوم بأن الحرية السياسية لا تستقيم من دون حريات ثقافية وإبداعية فردية وجماعية.
ما جرى في موضوع جاد المالح خطير. ليس لأن مهرجانات بيت الدين مهدّدة في خياراتها الفنية الرائدة التي أمّنت تواصلاً لبنانياً مع العالم (وعالمياً مع لبنان) في أحلك الظروف. بل لأن الرقابة إن انتصرت مرة، تنفتح شهيّتها على المزيد من الانتصارات. وينبغي بالتالي مقاومتها ومنع انتصاريتها من الاستشراء.
زياد ماجد