بعد أن نجح نواف سلام، مدعوماً من رئيس الجمهورية جوزف عون، في تشكيل حكومة هي أفضل الممكن في ظل النظام الطائفي وفي ظل موازين القوى في المجلس النيابي، متجاوزاً لأول مرة منذ العام 2008 قدرة هذا الطرف أو ذاك على تعطيل السلطة التنفيذية، وبعد أن ضمّت الحكومة أشخاصاً مثل طارق متري وغسان سلامة يُشهد لهم بالاستقامة السياسية والخبرة الديبلوماسية والثراء الثقافي، وبعد أن صدر بيان وزاري دقيق في توازناته وواضح في تحديد مهامه الجسام للأشهر الستة عشر المقبلة، طرأ على المشهد اللبناني عنصر توتّر خطير ينبغي التفكير الجدّي بمؤدّياته.
ذلك أن إسرائيل قرّرت عدم الانسحاب من خمسة مواقع استراتيجية احتلّتها خلال حربها الأخيرة مع حزب الله في جنوب لبنان، وقرّرت تحصينها وإبقاء وحدات عسكرية فيها، وسط مناطق دمّرتها بالكامل.
وهذا يعني عملياً منع عودة الآلاف من الجنوبيين الى عدد من البلدات الحدودية لإعادة بنائها. ويعني منع الجيش اللبناني من الانتشار على مقربة من المواقع المحتلة. ويعني أيضاً الضغط على الداخل اللبناني لإيجاد شرخ إضافي بين القوى السياسية والطائفية المتباينة المواقف تجاه الواجب فعله جنوباً، ودفع حزب الله الى التهديد والمزايدة على الحكومة ومساعيها الدبلوماسية المُعلنة، بما يُبقي الاحتقان السياسي والاجتماعي شبحاً يتهدّد "الإجماعات" الوطنية ومسارات الإصلاح الشائكة المرتقبة.
والأرجح أن إسرائيل تريد ربط المواقع اللبنانية الخمسة التي قرّرت مواصلة احتلالها، بالمواقع السورية التي احتلّتها آخر العام 2024، بحيث تبني خطاً يمتدّ من البحر المتوسّط لبنانياً وحتى الجنوب السوري، مروراً التفافياً حول جبل الشيخ (والجولان المحتل)، يترجم مقولتها بتغيير أحوال المنطقة وبتكريس واقع جديد يصعب التعامل معه. فلا الحرب معها ممكنة في ظل الاختلال في موازين القوى الذي تعمّق وتكرّس بعد ضرب حزب الله ولبنان، ولا الديبلوماسية ومجلس الامن سينفعان في ظلّ دعم أميركا لتل أبيب واحتمال توظيفها الاحتلال العسكري في استراتيجية شرق أوسطية تربط فيها كل انسحاب إسرائيلي بتطبيع عربي مع الاسرائيليين.
هكذا يبدو لبنان مقبلاً على ابتزاز أميركي إسرائيلي جديد، مفاده القبول باتفاق سياسي مع إسرائيل يتخطّى مسألة ترسيم الحدود البرّية، مقابل الانسحاب من الأراضي المحتلة. وهكذا أيضاً، قد تكون سوريا مقبلة على مشروطية مماثلة تربط مثلاً رفع العقوبات الأميركية والاستثمار فيها بالتطبيع مع تل أبيب، بما يسمح لدونالد ترامب بالقول يوماً إن جميع الدول العربية ذات "الحدود" مع إسرائيل وافقت على "السلام" الذي أطلق عجلته من خلال "صفقة القرن" و"اتفاقيات إبراهام" في ولايته الأولى، وإنه أنهى بالتالي صراعاً ينبغي أن يدفع الفلسطينيون ثمن تصفية ما تبقّى من رواسبه عبر استسلامهم أو إخراجهم من أرضهم.
والأمر إذ يبدو الآن تقديراً لما يُعدّ له من عروض، يُفترض أن تتعامل الحكومة اللبنانية جدياً مع احتمالاته ومع تبعاته. فخطره على الداخل اللبناني كبير، لوجود تباينات سياسية وطائفية متوقعة تجاهه، ولكون تداعياته الاقتصادية مؤذية إذا قرّر ترامب توظيفه كشرط أو كوسيلة ضغط دائمة بهدف عزل حزب الله، في ظل صعوبة المرحلة والحاجة الى مساعدات مالية خارجية كبرى والى إصلاحات هي بدورها مقبلة على انقسامات داخلية تجاهها ترتبط بتوزيع الخسائر المصرفية وبأولويات النهوض وموازناتها.
نحن إذاً أمام مأزق جنوبي لا حلّ له في المستقبل القريب. فلا المقاومة العسكرية (المشروعة قانوناً) متاحة أو مرغوبة بعد النكبة التي حلّت بالجنوبيين. ولا المواقع المحتلة على تماس مع بلدات مأهولة أو مع كتلة بشرية يمكن للفعل المقاوم شعبياً التحرّك ضمنها. ولا الديبلوماسية الرسمية، الضرورية في جميع الأحوال، قد تكفي لإنهاء الاحتلال، ولا حتى الشكوى الى محكمة العدل الدولية، الممكنة، قد تُفضي سريعاً الى تغييرٍ في المعادلة التي تريد إسرائيل تكريسها بدعم أميركي لم يسبق أن بلغ هذا الحدّ من التواطؤ، على الأقل خارج الخريطة الفلسطينية.
وهذا كلّه يتطلّب مصارحة للرأي العام،
وحواراً شفافاً وعلنياً مع حزب الله لتحديد المسؤوليات والحيلولة دون تهويل
ومبالغات خطابية يسهل تحوّلها الى صخب ميداني وأعمال شغب. ولكنّه يتطلّب أيضاً
وعياً وحكمة من خصوم حزب الله، الذين قد تقود الأوهام والحسابات الخاطئة بعضهم، نحو
إجهار القبول بمشاريع ليست في صالح لبنان طالما أنها تعمّق الانقسامات داخله، ولن
تُنهي في أي حال الصراع في فلسطين وآثاره في المنطقة ككلّ.
وهو يتطلّب أخيراً تنسيقاً مع الحكم الانتقالي في سوريا للبحث في مختلف السيناريوهات المقبلة، وحملات إعلامية وديبلوماسية عربية ودولية لدعم الحكومة اللبنانية سياسياً واقتصادياً، بمعزل عن المشروطيات الأميركية والإسرائيلية...
زياد ماجد
مقال منشور في "ميغافون" في 21 فبراير 2025