Thursday, December 5, 2024

فيروز والمخلوفي والحمراء وبيروت التسعينات

لا تستدعي تسعينات بيروت، بين نهاية الحرب الأهلية العام 1990 واندحار الاحتلال الإسرائيلي العام 2000، استذكاراً نوستالجياً لأحداثها أو لمآلات تطوّراتٍ سياسية واقتصادية وإعمارية وحربية حصلت خلالها. لكنّها تستعدي بلا شكّ استذكاراً للجهود وللبهجة والدهشة التي عرفتها ولألوان أمكنةٍ أليفة زالت، ويبدو كما لو أنها لم ترافقنا في حياتنا اليومية على مدى عقود. 

فالتسعينات كانت حقبة مسرح بيروت في عين المريسة بتعدّد أنشطته ومهرجاناته الثقافية التي أشرف عليها كما أشرف على ملحق النهار، بتنوّعه وبمقالاته اللبنانية والسورية والفلسطينية، قبل انطفائهما الواحد تلو الآخر فقيدنا الياس خوري.

والتسعينات كانت حقبة الحملات المواطنية، من جمعية ديمقراطية الانتخابات الى حملة بلدي بلدتي بلديتي (التي كان للعزيز بول أشقر الدور الأبرز في إطلاقها)، وما مثّلتاه من فعل تحدّ للتزوير وللقائمين به في أروقة السلطة المدعومة من نظام الهيمنة المخابراتي السوري، قبل تحوّلهما الى نموذج للحملات المواطنية في البلد ككل.

وهي كانت كذلك حقبة الهيئات الثقافية المناطقية التي حشدت طاقات ونظّمت فعاليات في كل المحافظات دفاعاً عن الحرّيات العامة ورفضاً للرقابة وللقمع وللتلويح بهما. وكان المجلس الثقافي للبنان الجنوبي بقيادة الراحل حبيب صادق الهيئة الأبرز بين الهيئات المذكورة والأكثر استقطاباً للاهتمام والمتابعة، ليس لتعدّد أنشطته وتنقّلها بين بيروت والنبطية وصيدا وصور فحسب، بل لدور حبيب أيضاً في المواجهة السياسية التي بدأت يومها مع السلطة وراعيها السوري، ولدوره في استنهاض حالة يسارية تقدّمية في الجنوب حيث حصل في انتخابات العام 1996، في حملةٍ لا تشبه سواها، على أكثر من 67 ألف صوت. 

والتسعينات كانت بالنسبة لليساريين اللبنانيين عقد المحاولات المستمرة لتأسيس حركات جديدة، إن على الصعد الطلابية الجامعية، أو على صعد النقابات، أو على الصعد الحزبية والتنظيمية الكلاسيكية. وأدّى ذلك، رغم محدودية تأثيره على المسارات السياسية العامة في البلد، الى خلق شبكات تحالف والى بلورة أدبيات سياسية وثقافية-سياسية جديدة أكثر انفتاحاً على قضايا مجتمعية لم تكن دائماً على أجندات اليسار التقليدي المتراجع حضوره منذ الثمانيات.

والتسعينات كانت في ما يخصّ القضايا الحقوقية حقبة البيانات والمبادرات التضامنية مع اللاجئين الفلسطينيين في لبنان المحرومين من حقوقهم المدنية والاجتماعية، ومع العمال الأجانب، وحقبة حملات قانون الأحوال الشخصية المدني الاختياري وحق المرأة بمنح الجنسية والحق بمعرفة مصير المفقودين والمخطوفين. وكانت كذلك حقبة النقاشات والسجالات والمؤتمرات والدراسات حول إعادة الإعمار ومسائل البيئة والحق في التظاهر واستقلالية القضاء وسبل مكافحة الفساد. وشهدت طفرة في الحيوية الثقافية والسياسية واللقاءات والتحرّكات الميدانية، لا أظنّها تكرّرت في الزخم نفسه في أي مرحلة لاحقة.

وقد كان لمَعلَمَين من معالم شارع الحمراء، حيث كانت مقار الصحف الأبرز (النهار والسفير ولوريان لوجور) وحيث ألوف الطلاب والأساتذة المرتادين جامعتين من الأكبر لبنانياً، عنيت المقهيين المتقابلين "المودكا" و"الويمبي"، دوراً مركزياً في مرافقة الحيويات المذكورة أو بعضها، عبر اجتماعات ولقاءات عابرة كانت تعقد على عجل حول طاولاتهما، التي ندُر ألا تلتقي بمعارف خلفها وألا ترى وجوهاً أليفة تدعوك الى مجلسها أو تبعث إليك من فوق الطاولات بكلمة أو ملاحظة أو نظرة أو نفخة دخان سيجارة تُظهر متابعة أو اهتماماً بما يدور من أحاديث في مجلسك. لا أذكر تماماً متى انطفأ المودكا والويمبي، ومتى غادرت النهار ولوريان الحمراء، ومتى أقفلت السفير، ولا أعرف من يتذكّر اليوم تفاصيل الاجتماعات والتحضير للأنشطة التي شهدتها تلك المحلّة البيروتية الصغيرة. لكن عالمها كان بالنسبة إلينا بحجم كونٍ بأكمله.

والتسعينات كانت أيضاً، لمحبّي كرة القدم كما لمحبّي طقوسها الشعبية، المرحلة الأبهى، إذ شهدت أفضل سنوات الكرة اللبنانية وامتلاء مدرّجاتها واحتدام التنافس فيها بين قطبي كرة القدم الأنصار والنجمة وما رافق الأمر من كرنفالية ومن أعلام وبهجة واحتفالات عفوية في الأحياء البيروتية، ومن أغانٍ وشعارات كانت "المذهبية" إن ظهرت فيها، تظهر على نحو كاريكاتوري، سرعان ما تمحوه مباريات موازية تتجابه فيها نوادٍ يُفترض أن قواعدها الجماهيرية متماثلة الانتماء المذهبي، فإذا بالفرقة وبالفتنة فيها أشدّ فتكاً وكيداً! وحصل أنه في النصف الثاني من التسعينات انتهى التسيّد المطلق للأنصار على البطولات، ونجح النجمة في انتزاع العديد من الألقاب، بقيادة مدرّب جزائري استثنائي، غادر عالمنا قبل أسبوعين. والمدرّب، رشيد المخلوفي، يستحق كل استذكار وهو أحد المدرّبين الصانعين الفوز الجزائري التاريخي على ألمانيا الغربية في كأس العالم 1982، وهو قبل ذلك أحد صانعي مجد نادي سانت اتيان الفرنسي على مرحلتين في الخمسينات والستينات لاعباً وهدّافاً فذاً، وأحد أبرز المنضمّين الى منتخب "جبهة التحرير الوطني" دعماً لحرب التحرير في الجزائر وللاستقلال. والمخلوفي هذا، بقي في بيروت التسعينات حتى بعد انتهاء عقده مع النجمة تعلّقاً بالمدينة وبحرها وناسها ومناخ الحرّية فيها على ما كان يقول، وتعلّقاً أيضاً بابنته التي شجّعها على الدراسة الجامعية فيها.

والتسعينات شهدت كذلك حدثاً موسيقياً عميق الأثر في وجدان جيل بأكمله، يتعلّق بفيروز التي احتفل لبنانيون بعيد ميلادها التسعين الأسبوع الماضي. ذلك أنها قبلت في التسعينات بعد طول تردّد "بالاستسلام" لأعمال ابنها زياد الرحباني، وبالنزول نحونا على درجٍ موسيقي ملوّن من سماءٍ أُرسلت سابقاً إليها، بوصفها "سفيرة لبنان الى النجوم". فالإبن صنع لها في أغانيها الجديدة التي ظهرت تدريجياً أواخر التسعينات (ثم في بدايات الألفية الثانية) عالماً أرضياً مجرّداً من "القداسة" التي وسمت جانباً من شخصيتها لفترة طويلة، معيداً إليها فرديّتها وعاديّتها وقدرتها على البوح بإخفاقاتها وغيظِها ومرحها وحبّها ومللها. كما أنه نقلها في كلمات أغانيه وموسيقاها ومناخات الجاز فيها الى المدينة، الى بيروت، بعد أن كان "جانبها الإنساني" مقيماً في بلدات الجبل اللبناني وطبيعته، التي عدّتها مسرحيات الأخوين الرحباني ومِثلها السردية الاستقلالية اللبنانية خصوصية الوطن، بشمسه وثلجه وقمر الزنبق المضيء لياليه...

هكذا، كانت بيروت التسعينات حقبة عابقة بالنشاطية والتجديد على مختلف المستويات. وفيها نمت صداقات وعلاقات وتحالفات وعداوات استمرّ بعضها عصياً على التبدّل رغم كل الأحداث الجسام اللاحقة. وهكذا، كانت بيروت التسعينات مدينة غنية بكل احتمالات الحياة وفرضيّاتها ومتعها.

وإن كان من سبب اليوم لاستذكارها في مرحلتها تلك، فهو الحرب، وهو الخوف المستتبّ من تلاشي ما ظلّ يمنّي النفس طيلة سنوات بإمكانية انبعاث ما يشبه بعض ملامحها، أو يحاكيها.

لبيروت التسعينات، لفيروز والياس والمخلوفي، لشارع الحمراء ومقاهيه التي اندثرت وللصديقات والأصدقاء الغائبين والحاضرين، السلام والحب وطيب الذكرى.

زياد ماجد

مقال منشور في ميغافون (في 27 نوفمبر 2024)