Sunday, November 17, 2024

هل يمكن الحديث اليوم عمّا بعد حرب غزة؟

تَطرح أدبيّات رائجةٌ في علوم السياسة و"حلّ النزاعات" آلياتٍ وديناميّات مختلفة لوقف الحروب أو الصراعات المسلّحة، وتقترح مساراتٍ ومصالحاتٍ أو تسويات أو إعادة إعمار أو إدارة انتقالية للمناطق التي حلّت بها نكبات أو كوارث إنسانية بسبب القتال والتدمير والخراب. ويزعم المدافعون عن هذه الجوانب والمروّجون لها أن التعامل مع تحدّيات "اليوم التالي" للصراع هو المنطلق السليم الوحيد لتجنّب تكرار الظروف التي تُفضي الى تجدّده أو الى صراعات أُخرى قد تتناسل منه.

غير أن مسائل "اليوم التالي" وسبل حلّ النزاعات ومساراتها تفترض بالضرورة أموراً ليست أطرافُ كثرةٍ من الصراعات في عالم اليوم معنيّة بها. فهي تفترض مثلاً أن مؤدّى كل صراع هو إقرار أحد أطرافه باحتمال هزيمته، وسعيه بالتالي للتفاوض قبل الانكسار أو الاضطرار لاحقاً للقبول بشروط تزداد مع مرور الوقت سوءً. وهي تفترض أيضاً "عقلانية" في سلوك الأطراف المتصارعة وداعميها يجعلها تقبل في لحظة معينة بوقفَ القتال والنيران حمايةً لمقدّرات اقتصادية وحربية وبشرية. وهي تفترض كذلك قناعة لدى المتصارعين مفادها أن الكيانات بجغرافياتها أو المشاريع السياسية أو المجموعات الإثنية التي يدافعون عنها أو يسعون "لتحسين ظروفها" غير مهدّدة بالزوال أو بالقضم إن ساوموا أو قبلوا بتسويات تُنهي الصراعات المسلّحة المرتبطة بها. وهي تفترض أخيراً إلماماً بأسباب الصراع وأوجهه وبأهداف المتصارعين القصوى وتلك التي يمكن القبول بها، كي تُطرح المبادرات على أساسها، وينطلق العمل التسووي والتفاوضي لإيجاد الحلول وتسويقها.

وكل هذا يدعونا للتدقيق بمشروعية الطرح الذي يُروّج له راهناً حول "اليوم التالي" في غزة، أو حول ما بعد حرب غزة، ويدعونا للبحث كذلك في أهدافه.

على مدخل الضاحية

لا شيء يفصل الضاحية الجنوبية عن بيروت. لا حدائق ولا مصانع ولا مواقف باصات. تدخل إليها من أطراف العاصمة عبر زاروب أو مفرق مفاجئ قرب محطة بنزين، أو تنفذ نحوها بين مسجد أو حسينية ومحل تصليح سيارات. تراها ممتدّة بموازاة طريق المطار، وتعبر مداها البحري، بعد منطقة الجناح في محلّة الأوزاعي، حيث تحوّل المؤقّت الى دائم، وحيث الدائم يبدو بين الحين والآخر مُقبلاً على مشاريع لا تتحقّق.

لا شيء يفصل الضاحية الجنوبية عن بيروت. لكنّها ظلّت على الدوام "الضاحية". ذلك المكان الذي توسّع ببطء على مدى عقدين قبل الحرب الأهلية، لتتسارع إيقاعات توسّعه بعد اشتعالها، ويصبح النزوح الجنوبي العظيم إليه واقعاً فرضته الاجتياحات الإسرائيلية ابتداءً من العام 1978.

هكذا، جمعت الضاحية خلال نصف قرن "سكاناً أصليين" (ولاجئين فلسطينيين) بنازحين اقتصاديين من الجنوب والبقاع وبمُهجّرين من العمق الجنوبي احتلّت إسرائيل وعملاؤها قراهم ومدنهم، فكانت عودتهم إليها لاحقاً عودةً صيفية أو موسمية، لا تعوّض مقام الضاحية وألفة شرفات مبانيها وكثافة بشرها وكراسي البلاستيك البيضاء المنتشرة أمام متاجرها ومحلات السندويشات فيها.

كامالا هاريس ودونالد ترامب: الخيار بين السيّئة والأسوأ

تجري يوم الثلاثاء المقبل في 5 تشرين الثاني/نوفمبر 2024 الانتخابات الرئاسية الأمريكية التي يصعب حتى الآن التكهّن بهوية الفائز فيها. ذلك أن كتلتين تتواجهان وتتساويان حجماً وتعبئة: كتلة قوامها الأساسي ملوّنون وسود من شرائح اجتماعية مختلفة وبيض مدينيّون متعلّمون ونساء يدافعن عن حقّ الإجهاض، وهم يشكّلون أكثريات سكّانية في الساحلين الغربي والشرقي الشمالي وفي معظم المدن الأمريكية الكبرى والمتوسّطة، وهؤلاء يدعمون مرشّحة الحزب الديمقراطي كامالا هاريس؛ وكتلة من البيض منخفضي المستوى التعليمي، ومن أثرياء داعمين لتخفيض الضرائب والانفاق الاجتماعي، ومن المحافظين المسيحيين المعادين للإجهاض وللخطاب النسوي، وهؤلاء أكثريات سكّانية نسبية في الولايات الجنوبية وفي ولايات الوسط وبعض ولايات الشمال حيث تتّسع الشرائح الريفية أو العمّالية الصناعية الدنيا التي عصفت بها التحوّلات الاقتصادية في العقود الماضية، وهم يصطفّون خلف دونالد ترامب الذي سيطر على الحزب الجمهوري وفرض رعباً على معارضيه فيه.

وتتموضع بين هاتين الكتلتين كتلة ثالثة، من خليط سكّاني طبقي وجيليّ ومناطقي وجنسيّ ومن أصول مختلفة، متردّدة وغير متجانسة، وتحاول كل حملة اجتذاب أكبر عدد من مكوّناتها إليها.