Sunday, June 23, 2024

التشظّي السياسي الفرنسي وأزمة الحكم المقبلة

لم ينتظر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون كثيراً بعد نتائج الانتخابات الأوروبية الكارثية لحزبه الأسبوع الماضي، ليعلن حلّ البرلمان الفرنسي والدعوة لانتخابات تشريعية مبكرة. أدّى الأمر الى مباغتة معظم القوى السياسية، بما فيها تلك الموالية له، وفتح الباب أمام احتمالات عديدة، تُظهر جميعها أن فرنسا مرشّحة للدخول في أزمة حكم سيصعب الخروج منها في الأشهر المقبلة. 

تقدّم اليمين المتطرّف

حقّق اليمين المتطرّف الفرنسي في الانتخابات الأوروبية أعلى نتيجة له في تاريخه، إذ حصل حزب التجمع القومي بزعامة مارين لوبن على  31,4في المئة من الأصوات، وحزب الاستعادة بقيادة إريك زمور على 5,5 في المئة، أي بإجمالي بلغ قرابة الـ37 في المئة. وتمكث على مسافة قريبة من الجماعتين المذكورتين ثلاث لوائح صغرى حظيت مجتمعة بحوالي 3 في المئة، وتُعدّ بعض قواعدها قريبة من اليمين المتطرّف في العديد من الدوائر.

في المقابل، حصلت قوى اليسار على أصوات قرابة 33 في المئة من الناخبين، توزّع 13,8 في المئة منها على لائحة الحزب الاشتراكي والمساحة العامة (التي يرأسها الكاتب رافاييل غلوكسمان)، و9,9 في المئة على لائحة فرنسا العصية (أو الأبية) التي يرأسها جان لوك ميلانشون، و5,5 في المئة على مرشّحي حزب الخضر، و2,3 في المئة على المرشّحين الشيوعيين. وحصلت لوائح صغيرة لمنشقين عن القوى الرئيسية أو لتروتسكيين وبيئيين مستقلين على ما مجموعه 1 في المئة من الأصوات.

ولم يحصل حزب إيمانويل ماكرون وحلفاؤه سوى على 14,8 في المئة، في حين نال حزب اليمين الجمهوري 7,3 في المئة. 

ولأن التمثيل في انتخابات البرلمان الأوروبي يقوم على أساس النظام النسبي، فإن اليمين المتطرّف نجح في ترجمة تقدّمه الانتخابي على منافسيه الى عدد كبير من المقاعد، وحصل على كتلة وازنة (30 نائباً من أصل 81 مخصّصين لفرنسا في البرلمان القاري) رغم خطابه التبسيطي وتواضع كفاءة مرشّحيه ومقارباته الخالية من المعرفة العلمية بمعظم القضايا المطروحة، وخلوّ سجلّ كتلته النيابية الأوروبية السابقة (18 نائباً) من أي "إنجاز" أو فاعلية أو حتى جدّية تشريعية. 

على أن فوز المتطرّفين اليمينيين لم يكن مفاجئاً لعدة أسباب. منها أن معظم وسائل الإعلام المرئي الخاصة في فرنسا تعتمد منذ سنوات خطابهم ومصطلحاتهم وتثير دورياً القضايا التي يركّزون عليها، أي العداء للهجرة وللإسلام والتركيز على المتفرّقات الأمنية وجعلها هاجساً مرتبطاً ببعض ضواحي المدن حيث يعيش قسم من المتحدّرين من أصول أفريقية وعربية، على نحوٍ جعل المقولات العنصرية مادة تداول عادي في فرنسا. ومنها أيضاً أن كراهية النخبة السياسية والاقتصادية والثقافية الباريسية بمختلف تشكيلاتها تزايدت كثيراً في عهد ماكرون في أوساط ريفية وفي مدن صغيرة طرفية ولدى شرائح اجتماعية محدودة التعليم والدخل، أو كاثوليكية محافظة، أو ذكورية معادية للحركات النسوية وللحقوق المثلية، وهي صوّتت بأغلبها لليمين المتطرّف. ومنها كذلك أن الخطاب السياسي الرسمي في فرنسا، بما فيه خطاب كثرة من وزراء ماكرون نفسه، طبّع مع جوانب من الكلام العنصري الذي يعتمده اليمين المتطرّف بحجّة منعه من توظيفها لصالحه (وهذه سياسة بدأت في عهد نيكولا ساركوزي وأكملها مانويل فالس رئيس وزراء عهد فرانسوا هولاند)، فلجأ الى إثارة قضايا هامشية في المجتمع الفرنسي وتسليط الأضواء عليها (الاندماج الثقافي واللباس في المدارس ومظاهر التديّن الإسلامي)، بما حوّلها الى محاور سجال سياسي هيمنت على المشهد العام وسمحت لليمين المتطرّف بالتذكير بأبوّته لها. ومنها أخيراً أن هذا اليمين يتقدّم أصلاً في معظم أنحاء أوروبا في حقبةِ تراجعٍ في فاعلية المؤسسات الديمقراطية ومصداقيتها، واستمرار الحرب الروسية في أوكرانيا وتعاظم التوتّرات حول قضية الهجرة الى القارة نتيجة الصراعات العنيفة المجاورة أو المصاعب الاقتصادية. 

كما أن ماكرون شخصياً ساهم في صعود اليمين المتطرّف، إذ أراد في ولايته الأولى إضعاف اليسار الاشتراكي عبر جذب الكثير من مسؤوليه الى حكومته وكتلته النيابية، ثم كرّر الأمر في بدء ولايته الثانية مع اليمين الجهوري إذ شجّع الانشقاقات فيه عبر تعيين عدد من أهم سياسييه وزراء ورؤساء مصالح كبرى. وكل هذا بهدف الزعم أنه المرشّح "المعتدل" والمسؤول والسياسي الوحيد الجامع يساريي الوسط ويمينييه في مواجهة اليمين المتطرّف من جهة واليسار الراديكالي من جهة ثانية، ظاناً أن الأمر يكفي في كل استحقاق إنتخابي لمنحه أكثريةً خوفاً من المتطرّفين (مثل ما حصل آخر مرة في الدورة الثانية للانتخابات الرئاسية العام 2022).

الانتخابات التشريعية المبكرة أو رمي المسؤولية على المجتمع 

غير أن ماكرون إذ تراجعت شعبيته في العامين الأخيرين بسرعة قياسية، وإذ تحوّل البرلمان الفرنسي حيث أكثرية حزبه نسبية وليست مطلقة الى مجلس يصعب التحكّم بقراراته، لم يستوعب أن الابتزاز الذي يمارسه عبر ادّعاء غياب البدائل لحكمه لم يعد مقنعاً لمن منحه أكثر من فرصة. فاستمراره في السياسات الليبرالية المتشدّدة ورفضه الحوار الاجتماعي الجدّي وفرضه قانون التقاعد وقوانين أخرى ترتبط بالعمل والهجرة والصحة، وصولاً الى العديد من مواقفه في السياسة الخارجية (لا سيما تجاه الحرب الإسرائيلية في غزة)، أنهت كل احتمال تصويت فئات واسعة له بحجة أفضليته النسبية مقارنة باليمين المتطرّف.

هكذا لم تُفلح دعوته لانتخابات تشريعية فرنسية مبكّرة بعد صدمة الانتخابات الأوروبية في تشكيل جبهة خلفه كان يطمح لحصولها، بقوام يجمع الى حزبه وحلفائه قوى الاشتراكيين واليمينيين الجمهوريين. فالاشتراكيون (الذين أعادوا بناء تيارهم في الآونة الأخيرة، بعد تراجعهم في ولايته الأولى) قرروا الانخراط مع الخضر واليسار الراديكالي (فرنسا العصية والحزب الشيوعي والحزب المعادي للرأسمالية) في جبهة يسارية عريضة أطلقوا عليها اسم "الجبهة الشعبية" (تسمية رمزية في سياق التاريخ الفرنسي تذكيراً بثلاثينات القرن الماضي حين اتّحد اليساريون في مواجهة صعود الفاشيات)، بما جعل جبهتهم الأكبر في مواجهة اليمين المتطرّف. أما ما تبقّى من اليمين الجمهوري فقد انقسم تماماً بين راغبين في الالتحاق باليمين المتطرّف (زعامة الحزب) وراغبين في الترشّح المستقل (المكتب السياسي). 

بمعنى آخر، أحدثت دعوة ماكرون المتسرّعة (والمبنية على تقديرات سياسية خاطئة) الى الانتخابات التشريعية تغييراً في الخريطة السياسية الفرنسية، بحيث سيتنافس على قيادة البلاد وتشكيل الأكثرية البرلمانية هذه المرة كلّ من اليمين المتطرف والجبهة اليسارية. ولن تكون الماكرونية في منأى عن هزيمة كبرى وعن تراجع جديد لكتلة نوابها، مما سيمنع تشكيل أي حكومة موالية للرئيس. 

أزمة الحكم المقبلة 

لكن التراجع الماكروني المؤكّد، لا يقابله أي تأكيد بعد في ما يخصّ هوية الفائز الأول ولا في ما يتعلّق بالأكثرية البرلمانية الجديدة. فنظام الاقتراع في الانتخابات التشريعية الفرنسية، وعلى العكس من الانتخابات الأوروبية، نظام أكثري من دورتين، وفي دوائر فردية. ويترشّح الى الدورة الثانية كلّ من حصّل مجموعاً يفوق نسبة الـ12,5 في المئة من أصوات المسجّلين على لوائح الاقتراع. وهذا يؤشّر الى احتمالات وصول مرشّحَيْن أو ثلاثة في معظم الدوائر، والى تنافس حاد على قسم كبير من المقاعد. والأرجح أن المشاركة الشعبية سترتفع مقارنة بما كانت عليه في الانتخابات الأوروبية. فمقابل نصف الفرنسيين الذين شاركوا قبل أيام، سيشارك ما لا يقل عن الـ60 في المئة منهم هذه المرة، بما سيولّد احتمالات كثيرة لجهة اتجاهات التصويت. كما أن الدينامية السياسية التي ولّدها تحالف اليسار الواسع مقبلة على تطوّر في ما تبقّى من أيام فاصلة عن موعد الدورة الأولى للانتخابات أخر شهر حزيران/يونيو، بالتزامن مع تعبئة في أوساط الطلاب الجامعيين وفي شرائح شعبية معادية لليمين المتطرّف، بحيث لم يعد من المستبعد أن يفوز اليساريون بأغلبية المقاعد المخصّصة لدوائر المدن الكبرى والمتوسّطة وضواحيها، وبأغلبية المقاعد في الجنوب الغربي وبعض مناطق الغرب الفرنسي، وأن ينافسوا اليمين المتطرّف والماكرونيين في دوائر أخرى (مقابل تقدّم لليمين المتطرّف في الجنوب الشرقي والوسط والشمال والشرق). 

يحيلنا كل ما ورد الى أن البرلمان الفرنسي المقبل لن يشهد أكثرية مطلقة لأحد (أي 289 نائباً، من أصل 577 هم أعضاؤه). وستكون المعركة الفعلية على ملكية الأكثرية النسبية فيه. وهذا يؤشّر الى أزمة حكم كبيرة قادمة. فمن دون أكثرية مطلقة يصعب تشكيل حكومة منسجمة. والخلافات العميقة بين الكتل الكبرى المرجّح تشكّلها في البرلمان ستمنع قيام تحالفات تُنتج هكذا أكثرية وتُشكّل حكومة ائتلافية. وأي سيناريو لتشكيل حكومة بوجوه من "المجتمع المدني" غير مقنع في ظلّ معارضة برلمانية كبيرة لرئيس الجمهورية. والأخير سيترك، وفق هكذا أوضاع، الحكومة الحالية تصرّف الأعمال لفترة غير قصيرة ريثما تتبلور الخيارات أمامه. وإذ يحول الدستور دون دعوة الهيئة الناخبة لانتخابات مبكرة مرتين في عام واحد، فإن هكذا دعوة قد لا تكون مستبعدة مطلع العام 2025 إذا تعذّر على المجلس الجديد تشكيل أكثرية تنبثق منها حكومة.

أزمة الحكم إذاً بدأت في فرنسا، ولا يوجد ما يسمح بالقول بأن الخروج منها سيكون سريعاً. وحتى لو استقال ماكرون، فلن تُحلّ الأزمة التي تسبّب هو نفسه بخلق جوانب منها، بل قد تتعقّد. ذلك أن تشظّي المشهد السياسي والصعود الخطير لليمين المتطرّف وتراجع الكتلتين الوسطية واليمينية الجمهورية تدفع نحو قيام يسار أكثر راديكالية وبالتالي نحو استحالة التسويات أو أقلّه صعوبتها، في بلد صار نظام جمهوريته الخامسة يلفظ على الأغلب أنفاسه الأخيرة.

زياد ماجد

مقال منشور في ملحق القدس العربي