Monday, February 12, 2024

في وداع رياض الترك، صانع الأمل وصائنه

السيّدات والسادة، الرفيقات والرفاق

العزيزتان خزامى ونسرين 

ما الذي يجمعُنا اليومَ، سوريّين وفِلسطينيين ولبنانيين وفرنسيّين، لتكريم رجلٍ تسعينيّ غادرنا قبل أربعين يوماً؟

هل هو احترامُنا لسيرته ولكفاحه على مدى عقود من أجل الحرّية التي رفضَ كلّ تنازلٍ عنها أو تسويةً على حقّه في انتزاعها؟

هل هي الصلابة الاستثنائية التي وسمت حياته داخل السجون وخارجها في مراحلَ واجه فيها التعذيب والقتل والاستبداد بلحمِه الحي؟

هل هو حبّنا المشترك لبلادنا المنكوبة التي لم يعرفِ التاريخُ إلا نادراً هذا المقدارَ من القسوة المسلّطةِ على ناسها، في حمص وداريا ودرعا وحلب، كما في غزة وخان يونس ورفح وجنين وبيروت وصنعاء وبغداد؟

هل هو الأملُ الذي ظلّ يذودُ "ابن العم" عنه ويقولُ به ويعدُ بلسانه بأن سوريا لن تبقى مملكةً للصمت؟

أم هو جانب الهشاشة الإنسانية رغم الإرادة الفولاذية الذي جعل منه مرآة لكثرٍ من آبائنا، ننظر عبره إليهم فنرى قوّتهم وتردّدهم وحنانهم وخشونتهم وانحناءهم الأخير تحت ثقل السنوات وما حملت من تجارب وأهوال؟ 

أظنّنا نجتمع هنا لكل هذه الأسباب. وأظنّنا هنا أيضاً لأنه ترك أثراً في كل واحد منّا، بمعزل عن مدى قربنا الشخصي منه.

سمعت باسم رياض الترك لأول مرّة في بيروت، في أواسط الثمانينات حين كان خلف القضبان في سجنه الطويل وكنا تحت نيران الحروب والركام. بدا ليَ الاسمُ شاعرياً بهياً رغم أن لا شاعريةَ ولا بهاءَ في جلافة السجن وسيَره. ثم اكتشفت مع كثر من أبناء وبنات جيلي "إبن العم" بعد خروجه مما إسماه السجن الصغير الى السجن الكبير أواخر التسعينات بفضلِ مقابلاته في ملحق النهار الثقافي وفي جريدة الحياة وفي لوموند وعلى قناة الجزيرة، وكلمته التاريخية في منتدى الأتاسي خلال ربيع دمشق المغدور، ثم في فيلم محمد علي الأتاسي، وفي كتابات صبحي حديدي ثم في أحاديث متناثرة مع زائر بيروت لأول مرةٍ يومها ياسين الحاج صالح.

ولا أبالغ في القول إن رياض الترك سرعان ما تحوّل بالنسبة إلينا، يساريين وديمقراطيين عاملين في لبنان بعد اندحار الاحتلال الإسرائيلي العام 2000 على بلورة مشروع مواجهة سياسية مع نظام الاستبداد الأسدي وحلفائه المُمسكين بالسلطة في بيروت، الى مرجعيةٍ أخلاقية، يُثير فينا حضوره البعيد-القريب، خاصة بعد تكرار سجنه من قبل الأسد الإبن العام 2001، إرادة التحدّي المضاعف. كأننا في ذلك نردّ له بعض الجميل على كلامه الساطع الشجاعة والوضوح تجاه سوريا ولبنان، المُفضي به الى ليل السجن من جديد.

ولا شكّ أن رياض الترك ظلّ رفيقنا خلال انتفاضة الاستقلال العام 2005، ثم خلال حقبة الاغتيالات التي طالت بين من طالتهم حبيبنا سمير قصير، أحدَ أكثر المعجبين به والمحبّين له. ولا شكّ أيضاً أن بقاءَ الترك في سوريا بعد اندلاع ثورتها العظيمة العام 2011، رغم التِمام الأنذال لسحقِها، مدّنا بجرعاتِ أملٍ وسط القتل والخراب والتهجير. وكان الخوف عليه دائماً، الى أن بلغ باريس وأمضى سنواتِه الأخيرة برفقةٍ عائليةٍ لم يحظَ بها في حياته السورية الطويلة والمتناثرة سنواتُها بين حبسٍ وعمل وعيش سرّي ودخانِ سجائر.

ولا بدّ هنا من توجيه تحية الى زوجة ابن العم، السيدة أسماء الفيصل، التي سُجنت بدورها وكافحت الى جانبه وبموازاة أسوار سجنه مانحةً ابنتيها ما أمكن من سُبل السير بالهامة المرفوعة دائماً وأبداً.

ولا بدّ أخيراً من توجيه تحية، الى الرفيق والصديق الغالي، أبو علي فائق المير، في غيبته الكبرى، الذي كان بنُبله ووفائه لموقعه الثوري، صنوَ ابن العمّ في دفعنا للتمسّك بأملٍ نطارد بقاياهُ كلّ ما تبعثَر أو ابتعد عن ناظرَينا...

في كتابه البديع "القاموس العاشق لفلسطين" يسأل الياس صنبر محمود درويش عمّا سيفعلانه يوماً بعد أن يتقدّم بهما السنّ، فيجيبُه الشاعر بما معناه: سنجلس أمام منزل قديم، تحت شجرة تين في فلسطين، نراقب الغيم ونتحدّث عن الطقس وعن أمور عاديةٍ أُخرى.

أظنّ الانتصار لرياض الترك، وللقيم والمبادئ والتضحيات التي أمضى حياتَه مدافعاً عنها، هو حين سيصبح ممكناً أن يعودَ أحفادُه إن أرادوا الى سوريا، ليجلسوا بكسلٍ يراقبون الغيمَ ويتحدّثون بأمور ليسَ للبطولة والسجن والتعذيب والكفاحية والتضحيات الجسام مكانٌ فيها. مكان هذه وتلك سيكون حينها في كتب التاريخ وفي بعض القصص التي تُروى ثم تُطوى سيرُ شخصياتِها بحنانٍ وفخرٍ، وتوضع تحت وسادةِ أحلامٍ ملوّنة.

لرياض الترك المجد والخلود، ولكم الحبّ والعمر الطويل.

زياد ماجد

كلمة أُلقيت في معهد العالم العربي في باريس بمناسبة مرور أربعين يوماً على رحيل رياض الترك