Sunday, October 22, 2023

رحيل جيزيل خوري الذي طوى صفحة من أعمارنا

لا يبدو الموت "العادي" في أرضٍ يحصد فيها العشرات من الأشخاص يومياً بسبب القتل والحروب والقمع والحصار مسألة حميمة خاصة، كما يُفترض به أن يكون، ترتبط برحيلِ قريبٍ أو عزيز أو وداع رفيق، يلتئم أحبّة لتذكّر شراكة أيام وابتساماتٍ وأحلام وإخفاقاتٍ ونجاحاتٍ واحتمالاتٍ ظلّت مؤجّلة. فالموت هذا صار في ظل الأخبار والصور ومشهديّة الفظيع أشبه بحدث يُصيب المعنيّين لوهلةٍ قبل أن يذوي في سياق أوسع ويتحوّل الى خسارة تُضاف الى خسارات معمّمة تحار العواطف والانفعالات في التعامل معها ورسم الحدود بينها أو استيعاب المُجريات وفصل الخاص عن العام فيها.

ولعلّ رحيل جيزيل خوري، الإعلامية اللبنانية التي دخل صوتها ونور عينيها عبر الشاشات الى معظم البيوت في العالم الناطق بالعربية، أصاب أهلها وصحبها الكثر بهذه الحيرة المجبولة بالحزن والألم، إذ جاء في فترة قاسية حلّ في إيقاعاتها فقدُ جيزيل وخصوصيّته مع كثافة قتلٍ واتّساع خرابٍ يستيقظ الأحياء أو الناجون وينامون يومياً على وقعهما في غزّة المحاصرة والضفة الغربية المحتلّة، أو في إدلب المنسيّة.

ورحيل جيزيل بدا فوق ذلك كلّه انطفاءً مأساوياً لما تبقّى من حياة كانت مُفعمة بالحب والنشاط والكفاح حتى صبيحة الثاني من حزيران/يونيو العام 2005، حين أصابها جرحٌ لم يلتئم، إثر مقتل سمير قصير، المؤرّخ والكاتب ورفيق جيزيل وشريك حياتها الذي اغتيل في سيارته أمام منزلهما في محلة الأشرفية في بيروت.

بهذا المعنى، أحاطت بنوم جيزيل الأبدي في 15 تشرين الأول/أكتوبر الجاري، بعد صراع مرير وشجاع مع المرض، هالة مستمدّة من حكايتها وسيرتها الخاصة، ومن خياراتها ومعاركها العامة، ومن الظرف والموضع الذي تنفّست فيه هواءها الأخير.

فجيزيل، الوافدة الى الإعلام الفضائي العربي وبرامجه السياسية بعد تجارب حوارية ناجحة في الإعلام اللبناني، الفاتحة ذراعيها للأفكار والآراء والتحوّلات والمراجعات، رافقت سميراً لسنواتٍ عشرٍ واقترن اسماهما بمجريات الحياة البيروتية وما عّبرت عنه في تلك الحقبة من حيوية فكرية ونشاطية مجتمعية وثقافية ومواجهات مع أجهزة المخابرات اللبنانية والسورية دفاعاً عن الحرّيات الفردية والعامة. وهي ظلّت وفيّة لذلك ومتمسّكة باستكماله بعد قتل سمير، وأكملت مشوار الكفاح مع تأسيسها في بيروت مؤسسة حملت اسمه ومركزاً للدفاع عن الصحافيّين وعن الحرّيات العامة، تحوّلا بفضل مثابرتها وصلابة عزمها وكفاءة العاملين والعاملات فيهما الى علامتين مضيئتين في العتمة اللبنانية، والى عونٍ حقيقي لكثر من الكتّاب والكاتبات في كامل المنطقة العربية، المتمرّدين على القمع والرقابة والتهديد ووشايات المخبرين.

وجيزيل، قبل ذلك وبعده، في ما تركته من أناقة لحظاتِ عمرٍ مشتركة، صديقة يُشعّ كرمها ويتّسع مجلسها لتوّاقين مثلها لبلد ومنطقة محرّرين من الاحتلال والاستبداد، يُحاسَب القتلة والمرتِكبين فيهما. وهذا ما قادها الى السعي الحثيث لمحاكمة قتلة سمير، عبر تحقيق فرنسي أطلقته دعواها في باريس، ليُدرَج لاحقاً في التحقيق الدولي بالاغتيالات في لبنان وليعلق في اعتباراتٍ وملابسات سياسية عقّدتها أحداث وتطوّرات كثيرة لبنانية وإقليمية ودولية.

ولم يحُل ذلك دون تمسّكها بالأمل. أملّ أشعلته الثورة السورية العام 2011، قبل أن تطفئه الأهوال والمجازر والبراميل والأسلحة الكيماوية، لتعود وتبعثه حياً الانتفاضة اللبنانية العام 2019 قبل أن يصرعها بدورها الانهيار المالي وتفجير مرفأ بيروت وما نجم عنهما من خسائر فادحة. وظلّت جيزيل بعد كل هذه الأحداث الجسام مكافحةً، وقرّرت خوض مغامرة مهنية جديدة تزامن تطوّرها هذه المرّة مع صراعها مع السرطان. صراع مرير وشجاع لم يثنِها عن العمل وترتيب الذكريات، حتى الرمق الأخير.

على أن القلب يتوقّف في لحظة، بعد مقاومة التعب لسنوات، وبعد خفقان حياة مُنهِكة بأحداثها وتحوّلاتها وإنجازاتها وحبّها وأوجاعها. وقد شاءت له جيزيل ألاّ يتوقف بعيداً عن بيروت. بيروت التي كتب سمير قصير تاريخها في كتاب، وبيروت التي احتضنت جسده وتمثاله ومؤسّسته بعد الرحيل. وبيروت التي لطالما ظلّ بحرها مفتوحاً على المدى الأزرق الواسع. فهناك، على مقربة من الموج وحركته الدائمة، أقفلت جيزيل خوري الباب على نفسها وطوت عمرها ومعه صفحات من أعمارنا.

رحلت جيزيل، وجاء رحيلها الفردي الخاص، مرافقاً لرحيلٍ عامٍ حمل الآلاف من الأطفال والنساء والرجال الفلسطينيين المثخنين بجروح الحرب الطاحنة المستمرّة عليهم. ورحلت، لتُطفئ زاوية إضافية في قلوب ذويها وأصحابها، تماماً كما كان لمصرع سمير أن أطفأ زاوية أولى.

لِذكراها وذكراه السلام وأكاليل الورد والغار والرياحين...

زياد ماجد

مقال منشور في ملحق القدس العربي