Sunday, May 7, 2023

مدينة نابولي إذ تحتفل بالانتصار على شمال إيطاليا

عاد نادي نابولي الى عرش كرة القدم الإيطالية بعد ثلاثةٍ وثلاثين عاماً من الانتظار. تُوّج فريق الجنوب بطلاً للمرّة الثالثة في تاريخه، وهو الذي قاده الارجنتيني دييغو مارادونا الى لقبيه الوحيدين السابقين في العامين 1987 و1990، وقاده أيضاً برفقة البرازيلي كاريكا الى الفوز بكأس الاتحاد الأوروبي العام 1989، وكأس الكؤوس الإيطالية العام 1990 على حساب خصمه الشمالي اللدود جوفنتوس في مباراة ما زالت الى الآن مصدر الاعتزاز الأكبر لمشجّعيه (إذ انتهت بخمسة أهداف لهدف).

 

وإحراز نابولي رسميّاً للّقب بعد مباراته ضد أودينيزي حوّل المدينة الجنوبية الى ساحة احتفالات وفرح كرنفالي ندر أن شهدت مثله. ذلك أن انتصارها ليس رياضياً فحسب، بل هو أيضاً هويّاتي وجهويّ يلامس السياسة ويردّ الاعتبار لمدينة (ومنطقة) تعصف فيها الأزمات، ويتعرّض أهلها، ومن بينهم جمهور ناديها الأوسع شعبية، لتنميطات وهتافات تحقيرية من قبل بعض جماهير الأندية المنافسة، تذكّر على الدوام بعمق الانتماءات المناطقية في إيطاليا وبالهوّة الفاصلة بين الجنوب والشمال وما فيها من اختلافات اقتصادية و"عنصرية" اجتماعية داخلية.

 

بطالة واسعة وتردّي خدمات وتحالف النجوم الخمسة

 

فعلى سبيل المثال، تُظهر المؤشرات الاقتصادية والديموغرافية بوناً شاسعاً بين أحوال منطقة كامباني، حيث نابولي، وأحوال الشمال الإيطالي، حيث المدن الصناعية والتجارية الكبرى، وحيث تركّز الثروات. فمعدّلات البطالة تراوح بين 12 و14 في المئة في المنطقة الجنوبية الساحلية، وتصل الى حدود الـ40 في المئة في حالة الأحياء الفقيرة في نابولي، في حين أنها تراوح بين 7 و8 في المئة كمعدّل وطني عام (وتقارب الـ23 في المئة في حالة من هم دون ال25 عاماً)، وتتراجع الى نسبة 4 في المئة كمعدّل وسطي في الشمال، ولَو أنها تبقى مرتفعة في أوساط الشباب (حوالي 20 في المئة).

وعلى صعيد الناتج القومي الإيطالي، تبلغ حصّة سكّان كامباني 6 في المئة منه فقط، رغم أنهم يشكّلون 10 في المئة من مجمل السكّان الإيطاليين. وتقلّ مداخيل العائلات الكامبانية بنسبة الثلث عن معدّل المداخيل العام في إيطاليا، وترتفع بذلك حالات الفقر، إذ يعيش تحت خطّه 30 في المئة من السكّان، مقابل 9 في المئة كمعدّل وطني عام.

 

يضاف الى الأمر أن أزمات إدارة النفايات والعديد من المرافق العامة (النقل وصيانة البنى التحتية) تتكرّر في الجنوب، وتحديداً في مدينة نابولي وضواحيها (التي تحلّ ثالثة في البلاد من حيث الثقل الديوغرافي بعد ميلانو والعاصمة روما)، ويتسبّب بها نقص الإمكانات والفساد وانخفاض أجور العاملين الذين يضربون دورياً ونفوذ المافيا (الكامورا) التي ما زالت تسيطر على مراكز حساسة داخل الإدارات العامة وفي القطاع الخاص، بما يسهّل لها "استيراد" النفايات من سائر إيطاليا (وأحياناً من خارج الحدود) لطمرها في نابولي مقابل مبالغ ضخمة.

 

وينعكس كلّ ذلك سياسياً على الخريطة الإيطالية، إذ صوّتت نابولي ومنطقة كامباني كما معظم مناطق الجنوب (ميزوجيورنو) في انتخابات العام 2022 التشريعية بنسبة عالية نسبياً لصالح "حركة النجوم الخمسة" (قاربت الـ41 في المئة في حالة نابولي) رغم التراجع الكبير لهذه الحركة الشعبوية المناهضة للأحزاب السياسية التقليدية على الصعيد الوطني (حصلت على 15 في المئة من الأصوات بعد أن حقّقت 32 في المئة العام 2018). وجاء هذا التصويت مناقضاً للميل العام في الوسط والشمال الإيطاليّين حيث حلّ تحالف اليمين بقيادة "أخوّة إيطاليا" (الذي ترأسه جيورجيا ميلوني) أوّلاً بفارق كبير عن منافسيه.


كرة القدم كمنفذٍ نحو فرح عارم

 

بالعودة الى انتصار نابولي والاحتفالات به، استعاد جمهور الفريق بهجةً لم يسبق أن سادت صفوفه وأفرحت المدينة بأسرها إلا أواخر تسعينات القرن الماضي، حين هزم نجمه يومها مارادونا أندية الشمال، ومثّل مع كاريكا ثنائياً مرعباً لخطوط الدفاع الإيطالية والأوروبية بأسرها. على أن صفحة البهجة والفرح تلك طُويت صيف العام 1990 حين نظّمت إيطاليا كأس العالم لكرة القدم، وشاءت الأقدار أن يواجه الإيطاليون في المباراة النصف نهائية الأرجنتينيين على ملعب مدينة نابولي إياها! والأرجح أن قائد المنتخب الأرجنتيني، مارادونا، لم يخطئ حين قال بعد المباراة التي أنهت الحلم الإيطالي بالفوز بالكأس إنه لعب على أرضه وبين جمهوره. ذلك أن ارتباكاً واضحاً أصاب المشجّعين الإيطاليّين الميّالين عاطفياً إليه، والرافعين في الوقت نفسه أعلام "بلدهم". وذهب بعضهم لاحقاً الى حدّ الشماتة بالمنتخب الإيطالي الخاسر، خاصة بعد تصريحات قائده (الميلاني) فرانكو باريزي الذي هاجم جمهور نابولي معلناً أن اللعب في تلك المدينة كان خطأ شنيعاً...

 

المهمّ أن نابولي عاد هذا العام، بعد أكثر من ثلاثة عقود، ليتسيّد الكرة الإيطالية، محتفياً هذه المرّة بثنائي كروي رهيب قوامه الهدّاف النيجيري الاستثنائي فيكتور أوسيمين ومن خلفه لاعب الوسط الجورجي كفارتسخيليا. ثنائي ذكّر بفاعلية مارادونا وكاريكا، ولَو أن لا مقارنة لأحد بمارادونا لا في نابولي ولا في أي مكان في العالم.

والحق أن بطل إيطاليا الجديد قدّم كرة قدم هجومية ممتعة وفعّالة، وأظهر انضباطاً تكتيكياً وسيطرة على مساحات الملعب خلال معظم أوقات المباريات التي خاضها. ولعب مدرّبه لوسيانو سباليتي دوراً كبيراً في قيادة الفريق الى اللقب، وهو الخبير بالكرة الإيطالية الذي قاد أمبولي ثم روما والانتر لسنوات. كما أن إدارة رئيسه دو لورانتيس وإنفاقها على اللاعبين وتجهيزات الملعب وعلى الجهاز الفني ساهما في إعادة نابولي الى قمة الكرة الإيطالية، ولَو أن الأمر لا يُعجب روابط الألتراس (وأبرزها رابطة "الفدائيين" التي تأسست العام 1979 واتّخذت اسمها تيمّناً بمقاتلي منظمة التحرير الفلسطينية التي كانت ترفع أعلامهم، وهو أمر مشترك بينها وبين رابطة "فدائيي" نادي روما المتأسسة قبلها العام 1972، رغم العداوة الكبيرة بين الناديين). فروابط المشجّعين الأكثر تعصّباً لناديهم كانت تتغنّى بقدرته على مقارعة أندية ميلانو وتورينو الشمالية الثرّية وناديَي العاصمة روما ولازيو من دون التضحية بطابعه الشعبي، وباستثمارات وموازنات أقلّ بكثير من تلك الموضوعة في تصرّف أندية الشمال والوسط. وهي في أي حال لا تُكنّ الكثير من المودّة لرئيس النادي، رجل الأعمال والمنتج السينمائي والمالك نادياً رياضياً آخر (باري) ووريث عائلة عاشت معظم سنواتها في العاصمة وليس في مسقط رأسها نابولي... لكنّ الروابط، مع ذلك، تقود الآن الاحتفالات، وتكرّم اللاعبين الحاليّين ومدرّبهم، وتستدعي الى احتفالاتها قدّيسها الأول والأوحد، الذي اتّخذ ملعب النادي المتجدّد اسمه: دييغو مارادونا.


هكذا، تحوّل انتصار نابولي في كرة القدم في إيطاليا الى مناسبة لإثارة قضايا الجنوب والشمال، ومسائل ملكية الأندية ورؤوس مالها، واستذكار حقبات ذهبية وأسماء لاعبين صارت مرادفة لأسماء مدن وأحياء ومناسبات. وهكذا أيضاً أنهى هذا الانتصار 33 عاماً من احتكار ثلاثة أندية للّقب هي جوفنتوس وميلانو وإنتر ميلانو (مع اختراقَين يتيمَين لاحتكارها من قِبل روما ولازيو). وربّما يفتح هذا الحدث الرياضي الباب لأحداث أُخرى، تعدّل من مراكز الثقل في الخريطة الكروية في بلدٍ لا تقلّ فيه مكانة "الكالشيو" عن مكانة الكثلكة أو السياسة أو الاقتصاد في الحياة اليومية لشرائح كبيرة من السكّان...

زياد ماجد

مقال منشور في ملحق القدس العربي