Sunday, February 12, 2023

النقابات الفرنسية في معركتها الكبرى: الحقّ في التقاعد قبل العجز والمرض

تدور في فرنسا منذ أشهر معركة اقتصادية وسياسية وقيميّة تتخطّى في مضامينها وتداعياتها موضوعها نفسه، ولَو أنه في ذاته عميق الدلالات والمؤدّيات. 

ذلك أن حكومة عهد إيمانويل ماكرون الثاني (برئاسة إليزابيت بورن) تحاول تمرير مشروع قانون يرفع سنّ التقاعد الى 64 عاماً (هو حالياً 62 عاماً مع تفاوتات بحسب عدد سنوات الخدمةوقطاعاتها وتاريخ بدايتها والظروف الصحية للعاملين والعاملات فيها). ومشروع القانون المذكور يأتي بعد فشل حكومة عهد ماكرون الأول (التي ترأسّها إدوارد فيليب) في تمرير مشروعٍ مشابه، وبعد فشل العديد من الحكومات في تسعينات القرن الماضي وفي العقدين الأخيرين في تمرير مشاريع تخصّ نهاية الخدمة وحقوق المتقاعدين وسواها من القضايا ذات الصلة. 

وتستخدم الحكومة اليومَ حجّتين لتبرير مشروعها. الأولى مفادها أن متوسّط أعمار الفرنسيّين ارتفع في العقود الأخيرة (من 74 عاماً سنة 1980 الى 82 عاماً سنة 2020)، مما يعني ارتفاعاً في الانفاق الصحي والاجتماعي على المتقاعدين الذين باتوا يعيشون لمدّة أطول ويزداد عددهم سنوياً. وهذا يتطلّب رفع سنّ التقاعد لمواكبة التبدّل الديموغرافي وزيادة الإنتاج وتمديد دفع الضرائب والرسوم والاشتراكات لسنتين إضافيّتين تجنّباً للعجز في الموازنة وتمويلاً لإنفاق الدولة المتعاظم. والحجة الثانية زعمُها أن الدول الأوروبية بمعظمها رفعت سنّ التقاعد لنفس الأسباب، ولا استثناء فرنسياً يتطلّب عدم السير بالسياسة إياها.

 

تهافت الحجّتين

 

يردّ القادة النقابيون واليساريون من معارضي التعديل الحكومي المُقترَح على المدافعين عنه وحجّتيهما بمجموعة مقولات قيَمية واقتصادية. ويرون فيه تعميقاً للظلم الاجتماعي الذي يلحق بذوي الدخل المتدنّي وبمجمل العاملين والعاملات في المهن الصعبة والشاقة. فارتفاع متوسّط الاعمار لا ينبغي بحسبهم أن يتسبّب بقصاصٍ لأكثر من نصف مجتمع العمل المنخرِط في ميادين وقطاعات منهِكة جسدياً وبسيكولوجياً، والحاصل على أجور ضعيفة أو لا تكفي لسدّ احتياجاته الشهرية. فما الطائل بالتالي من تمديد معاناته لسنتين أو ثلاثة بنفس شروط الدخل المنخفض؟ وهل صحيح أصلاً أن متوسّط الأعمار ارتفع بنفس النسبة لدى جميع الفرنسيين، أم أن تفاوتاً بحسب ظروف الحياة والعمل يميّز بينهم ويُبقي الارتفاع محدوداً لدى الشرائح الفقيرة أو المتوسّطة المُزمع تشغيلها لفترة أطول؟

وكل هذا يُحيل الى الجانب الاقتصادي المُراد الترويج له وتحويل مزاعمه الى لازمة يكرّرها كثرٌ من دون تدقيق. إذ مَن قال إن في تمديد سنوات خدمة ملايين الموظّفين والمستخدمين والعمّال ما سيساهم في تحسين شروط توزيع الثروة لاحقاً وتأمين موجبات التقاعد المادية للمعنيّين لفترة أطول؟ فجميع تجارب العقود الثلاثة الماضية تُظهر أن أصحاب الثروات ازدادوا ثراءً والثروات ازدادت تركّزاً، وأن الهوّة الاقتصادية الاجتماعية بين الأغنياء والفقراء (في فرنسا وأوروبا والعالم) توسّعت على نحو لم يسبق له مثيل، مما يعني أن النظم الضريبية والادّخارية المعتمدة باتت أقل تأميناً لمقدار مقبول من إعادة توزيع الدخل. وهذا كلّه يدفع للقول إن تطويل سنوات الخدمة في أكثر القطاعات الخاصة حيث يعمل القسم الأكبر من الناس إنما يُفضي الى تعزيز قدرة أصحاب رؤوس المال على مراكمة الأرباح التي يتوزّعونها مع مجالس إدارات شركات ومؤسسات، ترفض دورياً طلبات تحسين بيئة العمل وأجوره لدى مستخدميها.

 

في المقابل، تؤكّد دراسات وتقارير، بينها تقرير أوكسفام الصادر الشهر الماضي أن زيادة الضرائب بنسبة 2 في المئة فقط على آلاف الأشخاص من أصحاب المليارات، لا سيّما أولئك الذين تضاعفت ثرواتهم على نحو مضطرد في السنوات الأخيرة، تكفي لتمويل عجز الموازنات الاجتماعية للدول التي يعيشون فيها، ومن ضمنها فرنسا، علماً أن الأخيرة خفّضت مؤخّراً الضرائب على الشركات الكبيرة ورؤوس المال بذريعة تشجيع الاستثمار وتحفيزه. كما تُظهر أن القول بارتفاع متوسط الأعمار وحده لا يعني الكثير إن لم يُقرن بالقول بتحسّن الصحة مثلاً وظروف الحياة في فارق السنوات المستجّد، وهو بالتحديد ما لم يحصل لا في فرنسا ولا في سواها. والأهمّ ربما أن القول بالحاجة الى المزيد من الإنتاج لتأمين المزيد من التوزيع إنما هو قول كاذب، لأن متوسّط إنتاجية الفرد في فرنسا بات اليوم ثلاث مرّات أكثر ممّا كان عليه قبل أربعين أو خمسين عاماً، والمطلوب بالتالي هو وضع سياسات جديدة تُعيد تنظيم توزيع الدخل بعد الازدياد الكبير للانتاج.

إضافة الى ذلك، يُفضي تمديد سنوات الخدمة الى تأخير فرص انخراط شباب وشابات في سوق العمل، ويقلّص في نفس الوقت فرص تشغيل المتعطّلين عنه من المتقدّمين نسبياً بالسن (تخطّوا الخمسين)، ويفرض على الدولة إنفاق بدل بطالة أوسع إذ سيضاف الى المستفيدين من البدل المذكور كلّ من هم بين سن التقاعد القديم والسن الجديد المطروح، ممّن لم يعثروا على مهن أو فرص جديدة.

 

أما التذرّع أخيراً بباقي الدول الأوروبية فليس فيه ما يُقنع في شيء. ذلك أن النموذج الفرنسي كان استثنائياً في سعيه لتحقيق حدّ ملموس من العدالة الاجتماعية وفي حمايته مستخدميه وعمّاله الذين انتزعوا عبر كفاحاتهم الطويلة حقوقهم، وليس التخلّي عنه أو التراجع عن العديد من مكتسباته - عوض جذب الآخرين نحوه – ما ينبغي فعله، خاصة وأنه قابل للحياة ولا شيء يهدّد ديمومته اقتصادياً أو سياسياً رغم كلّ التحوّلات في العالم.



مجتمعات الأكثريات التعيسة

يمكن القول إذاً، في ما هو أبعد من عناصر السجال المذكور، قيَمية أو تقنية، أن مشروع الحكومة يطرح تصوّراً قديماً مستجداً للنموذج المجتمعي الذي يريد. وهو يقوم على دعم تنافسية الاقتصاد التي تعني تسهيل الربحية للأكثر غنىً والسماح باستغلال الأكثر فقراً، والتراجع عن بعض القوانين والتشريعات بحجج ديموغرافية أو خارجية تُطيح بحقّ العمّال والموظفين، ممّن ينهضون يومياً للتوجّه الى عمل يُتعسهم ويستنزفهم ولا يمنحهم المردود المُستحق، في التقاعد قبل المرض والعجز...

 

في أي حال، يصطدم مشروع الحكومة حتى الآن برفض عارم من قبل النقابات العمّالية والمهنية التي ما زالت قادرة على تعبئة ملايين الفرنسيين (يتخطّى عدد المنتسبين إليها الأربعة ملايين شخص). ويصطدم أيضاً بالأحزاب والقوى اليسارية التي يشكّل تحالفها الكتلة الثانية في البرلمان (بعد كتلة ماكرون)، وبأغلبية الروابط الطلابية الثانوية والجامعية. كما يصطدم برفض جمهور متعدّد الخلفيات والاتجاهات سبق وشارك في حملات السترات الصفراء، وعاد للتحرّك اليوم في المدن الصغرى والتجمّعات السكنية التي نشأت بالقرب من الطرقات السريعة في أطراف فرنسا.

ويصطدم أخيراً برفض الكتلة البرلمانية لليمين المتطرّف (الكتلة الثالثة) تمريره، لحسابات انتخابية إذ أن استطلاعات الرأي تشير الى معارضة أكثرية فرنسية صريحة له (حوالي 60 في المئة)، وهذا لا يسمح لمارين لوبن المدّعية دفاعاً عن حقوق الفئات الشعبية القبول به.

 

في المقابل، من غير المرجّح أن يتراجع ماكرون عن المشروع (وهو لم يعدّ معنياً بالمعادلة الانتخابية لكونه في ولايته الثانية). ويراهن على انضمام اليمين التقليدي (صاحب الكتلة الرابعة) الى كتلته موافقةً على المشروع بما يمكّنه من إقراره في البرلمان.  

وسيكون الشهر المقبل حاسماً على هذا الصعيد إذ أن استمرار المظاهرات والإضرابات وتصاعدها، واستمرار دعم الرأي العام لها، قد يربكان عدداً من برلمانيي الماكرونية، المعنيّين هم بإعادة انتخابهم، فيُخرجهم عن إجماع كتلتهم ويحول ربما دون نيل المشروع الأكثرية التشريعية اللازمة...

زياد ماجد

مقال منشور في ملحق القدس العربي