Sunday, January 9, 2022

في خريطة الانتخابات الرئاسية الفرنسية

تدخل فرنسا في الأسابيع المقبلة في مرحلة حاسمة لجهة إعلان الترشيحات النهائية للانتخابات الرئاسية وحثّ الجهود لحصول كلّ مرشّح أو مرشّحة على الخمس مئة توقيعٍ داعم التي ينصّ عليها القانون. والتواقيع هذه تأتي من المُنتخَبين في مجلسَي النواب والشيوخ وفي البرلمان الأوروبي، كما من جميع رؤساء البلديات ومن عدد من أعضاء مجالس المدن الفرنسية الكبرى ومِن المجالس المحلية والمناطقية ذات الصلاحيات الموسّعة. وهي تُعدّ قبولاً بمشروعية المرشّحين وتسمح لهم بتقديم ملفّاتهم ليوافق عليها المجلس الدستوري قبل الدورة الأولى المفترض التئامها في شهر نيسان/أبريل المقبل.

وليس من المؤكّد بعدُ حصول جميع من أعلنوا العزم على الترشّح على العدد اللازم من التواقيع، ممّا سيعني عزوف بعضهم نتيجة تعثّرهم القانوني.

الفقرات التالية قراءة في الترشيحات والاحتمالات الانتخابية.

حملات وترجيحات وتقدّم كبير لليمين

في انتظار إعلان الرئيس إيمانويل ماكرون عن ترشّحه رسمياً لولاية ثانية وأخيرة، وبدء تحرّك ماكينته بموازاة عمله وعمل حكومته وسعيها لتأمين فوزه، يخوض المرشّحون والمرشّحات المنافسون له منذ أشهر حملاتهم ويشكّلون فرق عملهم ويعلنون العناوين الرئيسية لبرامجهم.

فمن جهة اليمين، تبنّى "حزب الجمهوريين" ترشيح فاليري بيكريس، رئيسة مجلس منطقة "جزيرة فرنسا" حيث تقع العاصمة باريس. وبيكريس التي كانت تُعدّ من الجناح "المعتدل" يمينياً لِقُربها من آلان جوبيه، تبدّلت قبل سنوات مع تشدّد اليمين وجنوح معظم أجنحته نحو أقصى اليمين، وبات هدفها اليوم التعويل على ماضيها لاستعادة قسم من الناخبين "المعتدلين" الذين انحازوا في الفترة الماضية الى إيمانويل ماكرون عبر برنامج اقتصادي يُرضي مصالحهم، والرهان على حدّة خطابها الراهن تجاه قضايا الهجرة والأمن والهوية لجذب ناخبين "متطرّفين". وتستند بيكريس في حملتها الى ماكينة حزبها ذات الخبرة التاريخية والى المنتخَبين المحليين اليمينيين في العديد من المناطق والى شبكات نفوذ وعلاقات داخل الهيئات الاقتصادية لتخاطب بواسطتهم قسماً واسعاً من البرجوازية الفرنسية ومن فئات الطبقة الوسطى المحافِظة وقسماً من الشرائح الريفية غير المعادية لسياسات الاتحاد الأوروبي.

وفي جهة أقصى اليمين، تبرز مارين لوبن، رئيسة حزب "التجمّع الوطني" ("الجبهة الوطنية" سابقاً) التي صار حضور حزبها مكرّساً في الحياة السياسية الفرنسية بعد أن كان مدعاة للقلق وللنقد وما يشبه التجريم أيام والدها. وقد أجرت لوبن منذ خسارتها في الدور الثاني من انتخابات العام 2017 أمام ماكرون، وتعرّضها لمذلّة حقيقية خلال المناظرة الانتخابية المتلفزة معه (إذ نجح في دفعها لارتكاب أخطاء شنيعة أظهرت ضحالة معرفتها بشؤون الاقتصاد وهشاشة ثقافتها السياسية)، مراجعةً شاملة لأدبيات حزبها، فتخلّت عن بعض الشعارات وحاولت تظهير نفسها كمرشّحة قادرة على مخاطبة جميع الفرنسيين والفوز بالانتخابات وترؤّس البلاد، بعد أن كانت الصورة التاريخية الملتصقة بها، وقبلها بوالدها، أنهما مرشّحا الناقمين الذين يدركون استحالة فوزهم، فيكتفون بالتعبير عن غيظهم وكراهيتهم للأجانب ورفضهم للأحزاب وللنخب السياسية ومؤسّساتها. وتراهن لوبان على العديد من شرائح الطبقة العاملة، لا سيّما في المناطق الشمالية، التي تعرّضت للإفقار في العقود الماضية والتي تُعادي الوحدة الأوروبية والهجرة وتعدّهما أبرز أسباب بطالتها أو تراجع قدرتها الشرائية، وعلى جزء من ناخبي الأرياف المعارضين للسياسات الأوروبية الخاصة بالزراعة، وعلى فئات من المتقاعدين الميسورين المقيمين في الجنوب الفرنسي. كما تراهن على الاستفادة من موجة "السترات الصفراء" التي تنامت قبل عامين في المدن الصغرى وفي التجمعات العمرانية المتشكّلة حول الطرق السريعة أو على مقربة من الضواحي المدينية المتوسّطة والكبرى.

وفي جهة أقصى اليمين أيضاً يبرز الكاتب إريك زمور، مفاجأة هذه الانتخابات حتى الآن، الذي يكابد للحصول على التواقيع الخمس مئة (ويدعو لتعديل القانون الخاص بها)، والذي يقترح برنامجاً ويعتمد مقولات أكثر تطرّفاً من تلك التي تملكها لوبان، ويعدّها البعض أقرب الى ما كان ينادي به والدُها ورعيله من العنصريّين الفرنسيين.

وزمّور، المُؤْثِر هويةً مسيحية مغلقة (ومتقدّمة على هويّته العائلية اليهودية) يُعيد الاعتبار لبعض الرموز التاريخية الأكثر رجعية في خطابه، ويعمد الى تبييض صفحة الجنرال بيتان وتجربة "فيشي" المتعاملة مع النازية، كما يدعو الى رفض الهجرة بالكامل وطرد جزء من الأجانب ووقف التقديمات الاجتماعية لهم وإعادة تموضع فرنسا في أوروبا، ويُعلن خوفه من الإسلام والمسلمين كما من المتحدّرين من أصول أفريقية معتبراً أنهم يتمدّدون ديموغرافياً في البلاد ويفرضون ثقافاتهم، بما يُنذر بانتزاعهم فرنسا من سكّانها "البيض الأصليّين". وتُوالي زمّور (الذي يحلّ رابعاً في استطلاعات الرأي، بعد ماكرون وبيكريس ولوبان)، مجموعات من اليمين القومي الخارجة من حزب لوبان على اعتباره عدّل من برنامجه، أو تشكّلت حديثاً وفق خطاب ومصطلحات فاشية، وقواعد اجتماعية كاثوليكية تفضّله على لوبان لكونها امرأة، إضافة الى جماعات معادية "للإستابليشمنت" قاطعت الانتخابات في السابق وقد تشارك لدعمه في الاستحقاق المقبل. وهو يستفيد من رعاية أحد أباطرة الإعلام والأعمال له (فنسان بولوريه) ومن علاقاته في الوسط الصحافي، كما من بعض تصريحاته المستفزّة التي تجعل جميع المعلّقين يتناولونها، ليحتل حيّزاً واسعاً في المشهد الإعلامي الفرنسي منذ أشهر.

وفي أقصى اليمين أخيراً، مرشّحان يحاولان الحصول على التواقيع اللازمة (والأرجح أن أياً منهما لن ينجح): نيكولا ديبون-إينيان القريب في خطابه من مارين لوبن (والمتحالف معها في مراحل سابقة)، وفرنسوا إيسّلينو، الذي يعِد الفرنسيين بما أسماه "فريكسيت" (على طريقة "بريكسيت")، أي خروج فرنسا من الاتحاد الأوروبي. والإثنان، إن تعذّر ترشّحهما سيكونان موضع تجاذب بين لوبان وزمّور لكسب أصوات مريديهما...

ومن الضروري ذكره هنا، أن جميع مرشّحي أقصى اليمين يعبّرون دورياً عن تقديرهم العالي لروسيا فلاديمير بوتين، وعن كراهيتهم للاتحاد الاوروبي ولنماذج الحكم والمؤسسات فيه ولأمريكا ولحلف شمال الأطلسي وللأمم المتّحدة ذاتها وما يعدّونه ضعفاً فرنسياً فيها أو تراخياً أو هيمنة أميركية عليها وعلى مجمل العلاقات الدولية. وفي هذا ما يقرّبهم من حركات اليمين المتطرّف في كامل القارة الأوروبية.


الترشيحات اليسارية والتراجع التاريخي

في الجهة المقابلة، أي جهة اليسار، تتعدّد الترشيحات وتتشتّت نوايا التصويت على نحو يبدو فيه المرشّحون اليساريّون متّجهين نحو أسوأ نتائج لليسار الفرنسي منذ قيام الجمهورية الخامسة (أي منذ العام 1958).

فالحزب الاشتراكي المتراجع الشعبية والخطاب، والمتبنّي ترشيح عمدة باريس آن هيدالغو (التي تضعها استطلاعات الرأي في موقع متأخّر جداً عن منافسيها)، لا يبدو قادراً على التفاوض مع حلفائه السابقين أو مع أطياف يسارية أخرى لتسحب مرشّحيها لصالحه، أو على الأقل لتوسيع هامش تحرّكه وجذب أصوات من خارج شبكات الاشتراكيين التقليدية. وهذا يجعل المرشّحة هيدالغو محصورة بدعم يأتيها من البلديات والمجالس المحلية التي ما زال لحزبها حضور فيها، وهو حضور يستند الى مكوّنات من الطبقات الوسطى في باريس وفي مدن غرب البلاد ووسطها وجنوبها الغربي على نحو خاص.

ومن الحزب الاشتراكي إياه يأتي أيضاً ترشيح منشقّ للوزير السابق آرنو مونتبور. غير أنه ترشيح قد لا يكتمل لأن صاحبه لن يحصل على الأرجح على الخمس مئة توقيع للمضيّ في حملته.

وعلى صعيد حلفاء الحزب الاشتراكي التاريخيين الذين رفضوا هذه المرّة الانسحاب لصالحه، يحضر يانيك جادو مرشّح حزب البيئيّين الخضر، الذين تقدّموا مؤخّراً في المدن الكبرى والمتوسّطة على سائر أطياف اليسار وفازوا برئاسة بلديات ليون وبوردو وستراسبورغ وغرونوبل وغيرها. وهم يراهنون على الأوساط الشبابية والطلابية وعلى المقترعين من بينهم لأول مرّة، وعلى ناخبين من الطبقات الوسطى المتعلّمة وعلى بعض شرائح البرجوازية ذات الوعي والسلوك البيئي. على أن مشكلة جادو هي أن تياره يحصد نتائج جيّدة في الانتخابات المحلية والأوروبية، لكن الأمر نفسه لا ينعكس على الانتخابات الرئاسية لأسباب تنظيمية ولاختلاف أولويات لدى الناخبين الخضر. وهذا ما يجعله، رغم تقدّمه المتوقّع على الاشتراكيين، غير قادر اليوم على دعوتهم للاتحاد خلف ترشيحه (كما فعل هو إذ انسحب لصالح مرشّحهم بنوان هامون العام 2017).

ويحضر بين حلفاء الاشتراكيين، المستمرّين في الترشّح أيضاً، فابيان روسل مرشّح الحزب الشيوعي الذي ما زال يملك بعض القواعد الانتخابية، ولو أنها على ضمور مستمرّ، في ضواحي المدن الكبرى وفي بعض أحيائها الشعبية حيث يصوّت له إضافة الى مناصريه التاريخيين فرنسيّون من أصول مهاجرة لتضامنه مع قضاياهم.

أما المرشّح اليساري الذي تضعه الاستطلاعات اليوم أوّلا بين اليساريّين وخامساً بعد ماكرون ومرشّحي اليمين وأقصى اليمين الرئيسيّين، والذي كاد يبلغ الدورة الثانية في العام 2017، فهو جان-لوك ميلانشون، الاشتراكي السابق وزعيم حركة "فرنسا العصيّة".

وميلانشون خطيب ذو حضور إعلامي صاخب وأسلوب شعبوي، وهو يحمل برنامجاً فيه شعارات اجتماعية وأفكار إصلاحية يسارية، مقرونة بسياسة خارجية قومية تعادي سياسات الاتحاد الأوروبي والولايات المتّحدة وتقرّبه الى موسكو (بما يجعله على تماس مع جزء من ناخبي أقصى اليمين). ويحظى ميلانشون بدعم خليط من الشرائح الاجتماعية (من الطبقات الشعبية ومن الطبقة الوسطى بشكل خاص) في المدن وضواحيها، ويحظى كذلك بتأييد شخصيات تعدّ حركته رافعةً لليسار. وهو يستفيد، مثل الحزب الشيوعي، من تصويت قسم كبير من الفرنسيين ذوي الأصول المهاجرة (من شمال أفريقيا بخاصة) لاعتبارهم إياه مدافعاً عن حقوقهم المهدّدة.

يبقى ترشيحان في جهة أقصى اليسار هما ترشيحا فيليب بوتو وناتالي آرتو عن الحزبين التروتسكيّين المتنابذَين، اللذَين لن يجمعا على الأغلب التواقيع الخمس مئة للاستمرار رسمياً في معركتهما. وهذا قد يؤدّي الى غيابهما لأول مرة منذ عقود عن المشهد الانتخابي الرئاسي.

كريستيان توبيرا وادّعاء الإنقاذ

وسط هذا التخبّط اليساري وضعف حيلة المرشّحين المُعلنين، أعلنت وزيرة العدل السابقة كريستيان توبيرا احتمال ترشّحها الى الانتخابات. وتوبيرا المتحدّرة من "الغْوِيّان الفرنسية" (في أميركا الجنوبية) التي تحظى بدعم من قوى يسارية راديكالية ومن مخيّبين من الحزب الاشتراكي، والتي اشتُهرت بجهودها لإقرار قوانين تصنّف العبودية والمتاجرة بالرق كجريمة ضد الإنسانية، عملت في ولاية فرنسوا هولاند بين العامين 2012 و2017 لإقرار حقوق المثليين بالزواج وتبنّي الأطفال، ممّا أكسبها تأييداً في الأوساط التقدّمية وجعلها في المقابل الهدف الأول لحملات الكراهية والعنصرية في الأوساط اليمينية والكاثوليكية المتشدّدة. وهي معروفة بسعة ثقافتها وبدفاعها الدائم عن قضايا حقوق الإنسان. لكن الصدمة الإيجابية التي كانت تتوقّعها من إعلان احتمال ترشّحها لم تحصل، وانسحاب مرشّحين يساريّين وازنين لصالحها لا يبدو وارداً، وهذا يعني أنها قد تُحجم عن الترشّح، أو أنها إذا قرّرت خوض الاستحقاق الانتخابي، فلن تحصل على نسبة جيّدة من الأصوات، لتأخّرها في دخول السباق، ولعدم اتّضاح برنامجها بعد، ولكون صيغة الترشيح وكأنّها لإنقاذ اليسار تنفّر الذين يعدّون أنفسهم أولى بالمهمّة وتسهّل من اتّهامها بالغرور والسعي للتفرّد والظهور بمظهر القائدة المنتظَرة...

هكذا، يبدو الحال اليساري شديد التشرذم، ولا أمل بتعديل ديناميّاته أو بإيصال أي من مرشّحيه الى الدور الثاني. ومن المرجّح أن تبقى الخريطة السياسية الفرنسية برمّتها وموازين القوى فيها على ما هي عليه، الى حين تبلور استراتيجية إيمانويل ماكرون الانتخابية واحتمال تركيز "هجماته" على مرشّحة اليمين (الجمهوري) فاليري بيكريس لإضعافها وتجنّب تأهلّها معه الى الدور الثاني، سعياً لتكرار سيناريو انتخابات الـ2017 ومواجهة مارين لوبان مجدّداً في هذا الدور وما يعنيه الأمر من يُسر الفوز عليها، ولو بفارق أصوات سيكون أقلّ من فارق الانتخابات الماضية وبمشاركة في الاقتراع ستكون بدورها أدنى شأناً...

زياد ماجد

مقال منشور في ملحق "القدس العربي"