Thursday, October 15, 2015

السجال حول الحراك اللبناني وهجاء المُثقّف

شهدت وسائل التواصل الاجتماعي مؤخّراً مجموعة سجالات على هامش الحراك المدني – السياسي القائم في لبنان وارتباطاً به وبمآلاته. وتميّزت معظم السجالات بالحدّة التي كان يمكن أن "تمرّ مرور الكرام" كما في حالاتٍ سابقة، لولا أن عدداً من المشاركين فيها هم صحافيّون وكتّاب ينشرون دورياً في أكثر من صحيفة لبنانية وعربية، وأسماء بعضهم اقترنت في السنوات الأربع الأخيرة بنصوصٍ جميلة ومفاجِئة، ويصعب بالتالي عدم التوقّف عند ما كتبوا ويكتبون سجالاً أو هجاء.
وما يعنينا في التوقّف السريع هذا أمران. الأول مرتبط بالحراك نفسه، موضوع السجال المُفترض. والثاني متّصل بقضايا ثقافية وسياسية أُثيرت، غالباً على شكل اتّهامات لشخصٍ بحاله وبما خُيّل أنه يمثّل، انطلاقاً من السجال إياه.
في الأمر الأول، من الواضح أن الحراك مأزوم، وأنّ اختلاف النبرات والحساسيّات والأولويّات فيه لم يعُد تنوُّعاً يُغنيه. فبين من يعدّه حملة مواطنية لمحاسبة طبقة سياسية حوَّل أداؤها الفضائحي بيروت الى مكبّ نفايات، وبين من يدفعه دفعاً نحو تصفية حسابات سياسية مع فريق لبناني واحد تحت شعاراتٍ اقتصادية اجتماعية يبرّئ بموجبها فُرقاء آخرين من المسؤولية عمّا انحدرت إليه الأمور (ويمتنع أصلاً عن ذكر هؤلاء أو عن رفع صوَر سيّدهم)، وبين من يُريده كِفاحاً يُفضي الى إسقاط "النظام" بأكمله، وبين من يُسقط عليه رغباته بقيام حالة تمرّد شاملة على مختلف البُنى والمؤسسات وعلى الموروث من قيم ومفاهيم في البلاد، صارت الاختلافات تُنذر بضمور جسم الحراك الأوسع من مُكوّناته، وتنذر أيضاً بتحوّل هذا الحراك الى مجموعة "أنشطة" ينفكّ عنها تدريجياً قسمٌ غير قليل من الناس. فكيف وأن "السلطة" تسعى بدأبٍ لمحاصرته، وتواجه المتظاهرين بالعنف والاعتقال وتبعث ميليشياويّين للاعتداء عليهم؟

يبدو السجال في هذه القضايا عاجزاً حتى الآن عن الوصول الى بلورة "استراتيجية" واضحة للحراك والاتفاق على تحديد المُشترك الذي ما زال قائماً بين مكوّناته والبحث في سبل المحافظة على قدرته الاستقطابية لجمهورٍ عريض كالذي شارك في تظاهرة 29 آب الماضي. وما التركيز على "حيوية" الشارع و"وضوحه" وعلى استقلاليّته وعلى تحوّله "مختبراً" يُنتج لِوحده السياسة سوى تجنّب لمواجهة أزمات الحراك، تماماً مثل تجنّب النقد الصريح لملامح "العنف" التي ظهرت في عددٍ من أنشطته بحجّة أنها غضب مشروع أو عنف مضاد لعنف رجال الأمن والميليشيا. وتُفيد هنا الإشارة الى أنّ المُقارنات التي تُعقد مع الحالة السورية بلهاء إذ تكاد تُشبّه الشتم والضرب بالهرّاوات أو استخدام خراطيم المياه – وجميعها انتهاكات مُستنكرة في أي حال – بالبراميل المتفجّرة والكيماوي والتعذيب حتى الموت...


في الأمر الثاني، كتب عددٌ من الزملاء تعليقات تستنكر الأبويّة ونبرات التعالي على الناس وعلى الناشطين التي تظهر عند مقاربة بعض المثقّفين لقضايا الحراك. وكتب زميلٌ مجموعة تعليقات تصلح لكل سياقٍ تُتداول فيه عباراتٌ سمجة من نوع "صراع الأجيال" و"للعُمر حقّه" و"قلنا لكم"، فيما ذكّرت زميلة بما تتعرّض له من ملاحظات وتلميحات ذكورية كلّ ما كانت في موقع قولٍ أو فعلٍ يُربك رجالاً فلا يجدون غير الإحالات العائلية والعُمرية لمُحاصرتها وللهروب من ارتباكهم. وأُطلقت حملات "هاشتاغ" بدت فيها الرغبة بهدم مُسلّمات ومقولات ورمزيّات جامحة، وفي الأمر ما يُحفّز التفكير في أكثر من مسألة ثقافية وأخلاقية ويمنع عنها الحصانات ويُفكّك ما قد يبدو محرّمات في طرحها. وكلّ ذلك ضروريّ ووجيه ومثير لأسئلة لا نطرحها كفايةً، جاء الحراك وما أحاط به ليُطلقها ولَو ابتساراً أو على شكل برقيّات سريعة. المشكلة في الأمر، والظلم الفادح فيه، أن قسماً كبيراً ممّا كُتب بدا استهدافاً لمثقّف لبناني عبّر عن دعمه الصريح للحراك وعن استنكاره في نفس الوقت لمظاهر العنف المضرّة به ونقده لقسمٍ من الشعارات التي رُفعت ومؤدّياتها. والمثقّف هذا، أحمد بيضون، ليس واحداً من أبرز المثقّفين اللبنانيّين والعرب فحسب، بل هو أيضاً أكثرهم حيويةً ورصانةً (بالمعنى العلميّ للكلمة)، ولا يُشبه صورة المثقّف النمطيّ التي أُريدَ تحطيمها، ولم يبدُ في قوله وسلوكه العام مرّةً ما يشي بنزعات سلطوية أو أبوية أو ذكورية لديه، على العكس من الكثيرين من أترابه، وعلى العكس ممّا تُبشّر به أحياناً نزعات البعض من جيل أبنائه وبناته. حتى فصاحة اللغة العربية التي يتحصّن بها كتابةً لا تبدو متكلّفةً أو اصطناعاً يُريد الإيحاء بغموض أو تصعيب مهمّة القرّاء، وهذا يُسجّل له إذ هو من القليلين الذين تبدو العربيّة معهم لغة مطواعةً قادرة على مقاربة المواضيع جميعها بحصافةٍ أو بِلهوٍ ومرح.
بهذا المعنى، لم يكن اتّخاذ بيضون رمزاً لفئة من المثّقفين المنويّ نقدهم أو إسقاط قداستهم موفّقاً، إذ ليس هو المعنيّ بالأمر. وإن كان من خلاف سياسي أو نقد ثقافي أو استياء من مصطلحات محدّدة استخدمها الرجل في تسجيله ملاحظاته على الحراك من الموقع الذي يشاؤه، فلا أظنّ الردّ يكون بترسانة جاهزة وبحججٍ مُحقّة، لكنّه ليس طريدتها الأمثل ولا حقل عملها المشروع. فأن تُحاكَم صفةٌ أو قيمةٌ شائعةٌ (تنبغي مُحاكمتها فعلاً) عبر إلصاقها بمن لا يحملها أو يجسّدها، ففي الأمر تجنّ وظلم يُفقد المحاكمة نفسها الكثير من صدقيّتها... 

في المحصّلة، وبالعودة الى الحراك، عكَس التوتّر المُحيط به وبدعمه كما بنقده أهميّة ما حقّقه من خلخلةٍ لاستقرار شكليّ كان أقرب الى الكسل والاستسلام لواقعٍ انحطاط مهين، جرّت إليه البلادَ طبقةٌ سياسية لا يُميّز أكثر مكوّناتها سوى انعدام الكفاءة والفساد وموهبة الاستفادة من الشبكات الزبائنية والعصبيّات والأوهام الطائفية. ولهذا تحديداً، يبقى الانحياز الى الحراك في شكله المواطني "بداهةً" ووفق شعاره الأوّل "كلّن يعني كلّن" ومن دون ادّعاءات تتخطّى في المقبل من الأيام مواجهة تعاطي "السلطة" مع أزمة النفايات وما ماثلها من أزمات وقضايا مهمّةٍ أُخرى. عدا عن ذلك، أخشى أن نندم بعد فترة فنكتب عن التوق لحراك جديد...
زياد ماجد