Sunday, March 16, 2014

سوريا: صناعة الموت والجوع والأرض المحروقة

لم يعرف التاريخ الحديث منذ الحرب العالمية الثانية حالةً من الهمجية المُمأسسة شبيهةً بتلك التي يصنعها النظام السوري ويديرها منذ قرابة الثلاثة أعوام. فالأمر ليس فقط في حجم العنف وكثافة القصف أو في عدد الضحايا، إذ سبق لحالات قمع ولمجازر أو حروب أو معسكرات اعتقال في بلدان أُخرى أن أردَت أعداداً أكبر بكثير من الناس، بل هو في "صناعة" هذا العنف وفي هندسته والإشراف على تنفيذه.

وتقوم "صناعة العنف" الأسدية على ثلاثة مرتكزات - عناصر.
- القتل المباشر، الفردي أو الجماعي، من خلال القصف المدفعي والصاروخي والجوّي والقنص والمذابح واستهداف أحياء أو بلدات في مناطق محدّدة.
- سياسة الأرض المحروقة والتجويع، لجعل سبل الحياة في بعض المناطق المستهدفة متعذّرة، من خلال التدمير، ومن خلال استخدام "أسلحة غير تقليدية" شكّل الكيماوي عنصر التصعيد الأقصى فيها، ثم من خلال قطع إمدادات الغذاء وفرض الحصار بهدف دفع السكّان الى الاستسلام طلباً للمأكل ولمجرّد البقاء على قيد الحياة.
- التعذيب المُمنهج في السجون والمعتقلات، وإعدام الألوف من المعتقلين تجويعاً أو حرقاً أو خنقاً، وتوثيق مقتلهم بما يشي بتنظيمٍ للقتل يتفرّغ جهاز بأكمله لمهامه وتوزيع أدواره وما تتطلّبه لاحقاً من تعامل مع الجثامين.

ويُظهر التدقيق في المرتكزات – العناصر المذكورة وفي التقارير التي تتناول بالتفصيل حالاتها، خططاً ينفّذها النظام جامعاً فيها أقصى درجات البربرية وأقصى درجات التنظيم (العنفي).

فالقتل المباشر والمعمّم كما التدمير الشامل يستهدف بشكل خاص مناطق في ضواحي المدن الكبرى أو على مداخلها، لا سيّما في دمشق وحلب، تشترك في فقرها وعشوائيّتها والأصول الريفية لأغلب سكّانها. وهي كانت بين أولى المناطق التي انتفضت على النظام. وبالتالي فإن ضربها بالبراميل المتفجرة كما بالصواريخ البالستية (سكود) هدفه الانتقام من سكّانها لخروج ألوف المتظاهرين ثم المقاتلين في صفوف الثورة من بيئتهم، لكن هدفه أيضاً تخريبها وجعلها أحياناً غير قابلة لإعادة الإعمار خاصة أن ثمّة خرائط سابقة للثورة تشمل بعضها في مخطّطات "مكافحة المخالفات" التي سبق للحكومات السورية أن وضعتها.  أما القتل والتدمير في حمص والمناطق المجاورة لها فيأخذ طابعاً مختلفاً، يشبه "التطهير المذهبي" تعديلاً لديموغرافيا المنطقة وتأميناً لبقائها "آمنة" تربط دمشق بمنطقة الساحل.

وفي ما يخصّ سياسة الأرض المحروقة والتجويع، فمن الواضح أن النظام أرادها حالاً لغوطتي دمشق ولبعض الأحياء المتاخمة للعاصمة، لا سيّما برزة وجوبر والقابون والمعضمية ومخيم اليرموك والبلدات الجنوبية المحيطة بالمخيّم. ذلك أن الأوضاع هناك تأخذ إضافة الى الطابع الانتقامي، طابعاً عسكرياً خاصاً، إذ فيها خطوط الجبهة المتقدّمة مقابل "قلعة النظام الأمنية" في دمشق. كما فيها المدى العمراني والبيئة الداعمة للخطوط هذه وللمقاتلين عليها.

وفي السجون، حيث يقبع حوالي مئتي ألف معتقل ومعتقلة، تُظهر الصور والشهادات (وآخرها الـ55 ألف صورة المسرّبة) أن التعذيب حتى القتل يتمّ على نحو مروّع، وقد ذهب ضحّيته أحد عشر ألف معتقل في سجون دمشق لوحدها (حتى آب/أغسطس 2013). والقتل يتمّ إعداماً أو تعذيباً بطيئاً أو تجويعاً. وتُجري إدارة السجون توثيقاً له وتضع أرقاماً على الجثامين وفق ترميز في سجلّات خاصة، على نحو يؤكّد بُعداً "صناعياً" في الموضوع، وليس مجرّد إفراط في الوحشية لم تتحمّله أجساد بعض المعتقلين. وهذا يُشبه ما كان يجري في مخيمات الاعتقال النازية ومثيلاتها القليلة في عالمنا المعاصر.


بهذه الممارسات المتكاملة و"الفلسفة العنفية" المُديرة والمدبّرة لها، يحاول النظام السوري منذ آذار/مارس 2011 القضاء على الثورة وإعادة تركيب المشهد السوري وجغرافيّته وبعض ديموغرافيّته. وينوّع بين استخدام العنف العشوائي وبين تقنينه وتركيزه على فئات محدّدة، مستضعفة إجتماعياً في الأساس، ومتحرّكة سياسياً ضدّه منذ اندلاع الثورة. كما ينوّع بين اعتماد التعذيب بهدف الإخضاع، والتعذيب بهدف الإبادة.

ورغم اتّضاح الكثير من معالم الجرائم المرتكبة ودراستها قانونياً وإقرار خبراء دوليّين بوقوعها على مستوى واسع ومنظّم (كان آخر الخبراء جيفري نايس المدعي العام السابق في المحكمة الدولية ليوغسلافيا وديفيد كرين المدعي العام السابق في محكمة جرائم الحرب الخاصة لسيراليون، وهما دقّقا بصوَر ضحايا السجون)، ورغم قول مفوضة الأمم المتحدة العليا لحقوق الإنسان نافي بيلاي بارتكاب النظام السوري جرائم حرب وذهاب الأمين العام للأمم المتّحدة بان كي مون الى حدّ القول بمسؤولية الأسد عن "جرائم عديدة ضد الإنسانية"، فإن إجراءً حاسماً واحداً ضد القتلة لم يُتّخذ بعد. ولا شكّ أن الأسباب القانونية المعقّدة (عدم انضمام سوريا لاتفاقية المحكمة الجنائية الدولية والاستعداد الروسي الدائم لعرقلة أي قرار أممي يُتّخذ تحت الفصل السابع، وغير ذلك) تصعّب اتّخاذ هكذا إجراء. لكن النقص في الإرادة السياسية الدولية يُصعّب الأمر أكثر. وما استمرار الدعوات الأميركية للتفاوض مع النظام، والاستمرار في الاعتراف بسفيره سفيراً لسوريا في الأمم المتّحدة، وحجب الأسلحة النوعية منذ أكثر من عامين عن مقاتلي الثورة السورية (أي حتى قبل بروز جماعات السلفية الجهادية وصعودها، وهي التي يجري التذرّع بها لمنع التسليح)، سوى أدلّة على انكفاء المجتمع الدولي عن مسؤوليّاته في ملاحقة المجرمين ضد الإنسانية بعد أن تعذّر إيقاف جرائمهم. وهذا يساهم في توفير مناخات سياسية تسمح (ولو على نحو غير مباشر) لصناعة الموت والجوع والخراب في سوريا بالاستمرار...

في ظل هكذا عنف يواجهه هكذا تقصير تستمرّ إذاً فصول المأساة السورية وتتتابع، فتحلّ كل فترة صوَر جديدة عن الفظاعات محلّ ما سبقها في القنوات الإعلامية وفي الذاكرة البصرية القصيرة، فينسى كثرٌ ضحايا السكاكين إذ تهطل البراميل المتفجّرة على البيوت، ثم ينسون البراميل إذ تنطلق الصواريخ البالستية وتدمّر حارات بأكملها. وبعد أن تغيب "أسلحة القتل العادية" خلف "غاز السارين" لفترة، يظهر القتل بالتجويع وتنكشف أهوال السجون، ثم يتوقّف المشهد مؤقّتاً على جرّافة تجرف أكواماً من الجثث، فتجرف معها جزءاً إضافياً مما تبقّى من مصداقية "المجتمع الدولي".

زياد ماجد