Friday, February 15, 2013

عن الجيش

لا يمكن لحريص على بناء الدولة في لبنان ألا يكون حريصاً على مناعة مؤسستها العسكرية، الجيش، لما عليها من مسؤوليات احتكار السلاح والدفاع عن الحدود والاستقرار.
في المقابل، لا يمكن لحريص على بناء الدولة ألّا يكون حريصاً أيضاً على إبعاد المؤسسة العسكرية عن التجاذبات السياسية والطائفية ووضعها كغيرِها من المؤسّسات تحت حكم الدستور والقانون وبأُمرة السلطات السياسية المدنية المنتخبة.
الكلام "البديهي" هذا لا يبدو بديهياً في لبنان منذ زمن. ذلك أن الجيش يتعرّض لضغوط تفرضها الأوضاع السياسية والأمنية السريعة التبدّل. بدأ الأمر أيام هيمنة النظام السوري، حين وَضع الأخير قائد الجيش في مواجهة رئيس الحكومة للحدّ من "تضخّم" نفوذه. وجرى تتويج المواجهة بانتخاب الأول، إميل لحّود، رئيساً للجمهورية بعد تعديل الدستور عام 1998. ثم مُدّد له عام 2004 بعد تعديل إضافي فتح الباب أمام المواجهة السياسية (الكوارثية) الأكبر في مرحلة ما بعد الحرب.
  
وتكرّر الأمر عامي 2007 و2008، إذ تعرّض الجيش لسلسلة ضغوطات وامتحانات بدأت بتصدير حُكم دمشق لشاكر العبسي الى مخيم البارد وما تلى ذلك من قتال ومآسي، واستُكملت باغتيال فرنسوا الحاج، ثم باجتياح حزب الله لبيروت في 7 أيار المشؤوم. وجرى من جديد تعديل الدستور وانتُخب قائد جيش ثانٍ، ميشال سليمان، رئيساً للجمهورية.
ورغم أن ملابسات انتخاب سليمان اختلفت عن تلك التي رافقت "انتخاب" لحود، وكانت أشبه بالتي أتت بفؤاد شهاب رئيساً بعد أحداث العام 1958 من حيث التوافق العربي والدولي لتدارك الأسوأ لبنانياً، ومن حيث سعي الرئيس الجديد الى اعتماد "سياسة اللا غالب واللا مغلوب"، إلّا أن التطوّرات في المنطقة ثم انقلاب حزب الله – دمشق في كانون الثاني 2011 على مقوّمات التوافق، عدّلت الموازين الداخلية ووسّعت الهوّة بين المعسكرين اللبنانيّين الرئيسيّين، فارضة غلبة سياسية (ومذهبية) مؤقّتة حاول سليمان احتواءها، فأخفق حيناً ونجح نسبياً حيناً آخر.

لكن سقوط التوافق، وبمعزل عن محاولات الرئيس الحدّ من وقعِه، وضع المؤسّسة العسكرية مجدّداً أمام الضغط السياسي الداخلي والخارجي، فبات قائدها مطالباً بضبط الأوضاع والاشتباكات المتنقّلة بين طرابلس وصيدا وبيروت بلا غطاء سياسي من جميع الأطراف، وبلا قدرة أصلاً على فرض الأمن وسحب الأسلحة من جميع تلك الأطراف!

وفاقم ذلك أن الإنقسام السياسي-الطائفي والتبدّل الديموغرافي العميق (الذي يخيّم على قوانين الانتخاب النيابي ويكاد يخلط بعض التحالفات) صار يخلّف تسابقاً مسيحياً على التخويف من صعود "السلفية السنية" ربطاً بما يجري في المنطقة عامة وفي سوريا خاصة. وفي الوقت عينه تدخل "السلفية الشيعية" عسكرياً الى قلب الصراع في سوريا لمشاركة نظام الأسد في قمع الثورة. فيصبح الجيش العاجز عن التصدّي للسلاح "الشيعي" (الثقيل) ملزماً على الأقل بمنع انتشار السلاح "السني" (الخفيف) وتمرير الوقت بأقل قدر ممكن من التوتّرات وخسارة المصداقية، على أمل اتّضاح مسار الأمور إقليمياً ثم وطنياً مع حلول الانتخابات النيابية ومن بعدها الرئاسية المُفترضة بين الصيف المقبل وصيف ال2014!


بهذا، يوضع الجيش في موقف دقيق تصبح المسألة المذهبية متداخلة فيه مع المسألة الأمنية (ولنا في حادثة عرسال الأخيرة مثال). ويزداد الأمر خطورةً إذ تعلو أصوات تستخفّ بدقّة الموضوع وصعوبته من جهة أو تزايد بسفاهة طائفية (وفاشية "بدائية" – تهوى الأحذية العسكرية) من جهة ثانية. وبهذا أيضاً، يعود السلاح "الأهلي" الذي يصعب التعامل معه راهناً والذي لا حلّ له على ما يبدو في المستقبل القريب الى الواجهة بوصفه عقدة العقد: لا ينفع التغاضي عنه في إبعاد مخاطره، ولا يقدّم الاكتفاء بالتركيز عليه حلولاً له ولا للكثير من القضايا المعلّقة في لبنان.
وبين المخاطر وانتفاء الحلول، يقبع الجيش والأمن، ويقبع معهما انتظار أطوار الهشاشة الجديدة...
زياد ماجد