Wednesday, December 22, 2010

الثابت والمتحوّل في الشرق الأوسط

تُقرع طبول الحرب في الشرق الأوسط منذ فترة، وتتعدّد السيناريوهات المُفضي أغلبها مجابهاتٍ في أكثر من موضع.

الفقرات التالية قراءة في بعض أوضاع المنطقة انطلاقاً من تشريح ديناميّتين: أميركية متراجعة وإيرانية متقدّمة (وإن استنفدت منذ أشهر تقدّمها). وفي هذين التراجع والتقدّم (المُستنفَد) ما قد بدأ يغيّر العديد من المعطيات القائمة منذ العام 2005 دافعاً نحو التصادم، وربما نحو بروز دينامية جديدة، تركية، ما زالت اليوم محدودة المعالم.


في التراجع الأميركي: بين القسر والاختيار

تكثر الاجتهادات في شأن موقع الولايات المتحدة حالياً في الشرق الأوسط وسلطتها وقدرتها على فرض الحلول أو إعلان الحروب أو إدارة المصالح. وكثرة الاجتهادات مبعثها تقلّص النزعة الهجومية سياسياً وإعلامياً للإدارة الجديدة مقارنة بما كانت عليه نزعة سابقتها (أقلّه في ولايتها الأولى بين العامين 2001 و2005)، وحال البطء في بناء سياسات جديدة للتعامل مع إرث ثقيل ومع تحدّيات كبرى. ويمكن ردّ ذلك الى أسباب يتعلّق بعضها بهيمنة هموم الاقتصاد وقانونَي الرعاية الصحية وإصلاح المصارف على أولويّات أوباما في النصف الأول من ولايته، فيما يرتبط بعضها الآخر بصعوبة التعامل مع المأزق الذي وصلت إليه السياسة الخارجية الأميركية إثر خياراتها الحربية والتغييرية قبل سنوات، واستحالة القطع معها من دون خسائر.

ولعلّ تشريح القول في وصول السياسة الأميركية الى مأزق (في الشرق الأوسط تحديداً) يفيد للإضاءة على الوضع الراهن.
فتصاعد القتال في أفغانستان ابتداء من العام 2006 بعد إعادة تنظيم الطالبان قواهم مستفيدين من شعور باشتوني بالتهميش نتيجة المسار السياسي في كابول ومدعومين من بعض أجهزة الاستخبارات الباكستانية، وانهيار الأوضاع الأمنية في العراق وتعرّض الأميركيين لخسائر كبيرة وتحوّل دول الجوار الى مراكز تأثير في صلب صناعة القرار في بغداد، إضافة الى عودة سياسة تعاون واشنطن مع الأنظمة العربية الى قديم عهدها تفضيلاً لها على بدائلها المحتملة انتخابياً (أي الإسلامية) بعد نجاح حماس في الانتخابات التشريعية الفلسطينية وتقدّم الأخوان المسلمين في مصر قبل ذلك بأشهر، جميعها أدّت الى تراجع الدينامية الأميركية التي أطلقتها إدارة بوش في المنطقة عقب 11 أيلول 2001 والتي تحدّثت خلالها عن "التغيير" وعن "الديمقراطية" كمدخلين  من مداخل "محاربة الإرهاب".  
وطبعاً ينبغي أن تُضاف الى ما ذُكر آنفاً مسألتان ساهمتا في التراجع إيّاه:
الأولى، فشل جعل "الدمقرطة" المجلوبة عسكرياً الى العراق ظاهرة جذّابة في المنطقة. والأمر هنا، بعيداً عن التبسيطيات السائدة[1]، مرتبط بحجم التمزّق الذي شهده المجتمع العراقي نتيجة السنوات الطويلة من الاستبداد، وهو تمزّق قمعه الأخير في جملة ما قمع، فإذا به ينكشف بأفظع صوره مع انهيار الاستبداد واستبداله بحكم يتعاطى بروح ثأر مع الواقع (نموذج حلّ الدولة وتسريح الجيش واجتثاث البعث والمساهمة في تهميش مكوّنات عراقية تحت هذه المسمّيات) ويحصر التركيز على البعدين الأمني والاقتصادي، وما يمكن أن يتخلّلهما من فساد ومن قمع (مغطّى بممارسات داخلية مذهبية وفي ظل احتلال أجنبي وتدخّلات من الجيران).
والمسألة الثانية، قدرة الأنظمة العربية على إعادة تسويق نفسها أميركياً وغربياً بوصفها ضمانة الاستقرار في المنطقة ككل وبوصفها الشريك القادر على مكافحة "الإرهاب الإسلامي" أو بالمقابل غضّ الطرف عنه وتعزيزه. وقد استفادت من هذه القدرة أنظمة صديقة للولايات المتحدة (السعودية ومصر والأردن وغيرها) تماماً كما استفادت منه أنظمة تُعدّ مخاصمة لها (سوريا بخاصة).

وإن عُطف على ما ذُكر، أن الانكفاء الأميركي عن الملف الاسرائيلي- الفلسطيني على مدى أعوام (قبل محاولة مقاربته، ومن دون نتائج، في مؤتمر أنوبوليس أواخر ال2007) ترك موازين القوى الميدانية بين الفلسطينيين والاسرائيليين تتحرّر من كل ضوابط وقيود (أي أنه أطلق يد إسرائيل استزادة في الاستيطان ومصادرة الأراضي والحصار وتهويد القدس الشرقية على نحو يصعّب من مهمة إطلاق أي مسعى سلام جديد)، يتبيّن أن قوة الحضور والتأثير الأميركية في الشرق الأوسط تراجعت فعلاً، وأنها بتراجعها أفسحت المجال لقوّة أخرى مضادة (إيران) بالتمدّد وبتجميع الأوراق القابلة لاحقاً للصرف تفاوضاً أو تصادماً (ولنا عودة الى هذا الأمر).

على أن مشهد التراجع الأميركي في الشرق الأوسط، يبدو منذ العام 2008 جزءاً من مشهد أعمّ.
فالولايات المتحدة بدأت تفقد منذ سنوات قدرتها على التفرّد في قيادة العالم، أو بالأحرى في الاستمرار بوصفها القوة "الما-فوق عظمى" (Hyper-Puissance). ذلك أن بروز الصين المتكّئة الى نمو اقتصادي عالٍ والى قدرة على رفض ما لا يناسبها من قرارات دولية أو طلبات أميركية، وبروز روسيا كقوّة لا تساوم في القضايا الاستراتيجية المرتبطة بما تعدّه مجالاً حيوياً لها في آسيا الوسطى والقوقاز وشرقي أوروبا (وكانت حرب جورجيا من أبرز تجلّيات الأمر)، جعلا دولاً أخرى كبيرة أيضاً، تعتبر نفسها خارج الوصاية الأميركية، لا بل رافضة لها في الكثير من الأحيان (البرازيل والهند وجنوب أفريقيا نماذج)...

أمام هكذا تعقيدات، وأمام خيارات محدودة للتعامل معها، وجدت إدارة أوباما نفسها ملزمة بالإمساك بمفاتيح أربعة للخروج من المأزق الشرق أوسطي رابطة جملة من علاقاتها الدولية بالمفاتيح هذه.

المفتاح الأول، الانسحاب من أفغانستان والعراق بحلول عامي 2011 و2012 (إلتزاماً بالجدولة الزمنية المعلنة) على نحو لا يبدو مهيناً أو مشوباً بمشاعر المرارة والخيبة للأميركيين بعد إنفاقهم بلايين الدولارات على الجهد الحربي وبعد مقتل الألوف من عسكرييهم.
وهذا يتطلّب تصعيداً ميدانياً ضد الطالبان وضد مواقع الدعم والتموين لهم داخل المناطق القبلية الباكستانية لإنهاكهم، ويفرض بالتالي استقداماً للمزيد من القوات المقاتلة الى أفغانستان، مما يعني تزايداً في الإصابات الأميركية وفي الكلفة المالية من دون ضمان للنتائج.
ويتطلّب أيضاً تشكيلاً سريعاً لسلطة عراقية جديدة[2] قوية وحليفة لواشنطن، أو في أسوأ الحالات غير معادية لها، تكون لها سيطرة أمنية جدّية على العراق وتؤّمن لاحقاً لأميركا بعض مصالحها الاقتصادية والنفطية. وهذا أيضاً غير مضمون.

الثاني، ضرب طوق إقتصادي وديبلوماسي حول إيران، يكون بديلاً من حرب مباشرة معها – رغم إبقاء الاحتمال الحربي قائماً – بهدف الحدّ من اندفاعتها في المنطقة ومنعها من التحكّم بعراق ما بعد الانسحاب، والأهمّ، بهدف منعها من التقدّم في برنامجها النووي. والأمر يقتضي تجاوباً روسياً وصينياً، وبالتالي مفاوضة لموسكو وبيجين على ملفّات أخرى للمقايضة بها، ليست الدرع الصاروخية الأميركية في أوروبا الشرقية وتوسّع "الناتو" باتجاه الحدود مع الاتحاد الروسي أو قضايا حقوق الانسان والتيبيت والتسهيلات التجارية والصناعية سوى بعض ما يُطرح فيها. المشكلة بالنسبة للأميركيين أن إحكام هذا الطوق قد لا يدفع الإيرانيين للتراجع سريعاً. كما أنه إن طال دون تأثير بالغ على مواقف طهران، قد يُضعف الالتزام الدولي به فيُعرّضه لمساءلة جدوى ثم لخروقات؛ والأخطر أنه لن يبقى لاجماً لإسرائيل إن قرّرت التحرّك عسكرياً ضد إيران ودفع تحرّكها الأميركيين الى التدخّل.

المفتاح الثالث، إستعادة دور في المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية ودفع الطرفين للوصول الى اتفاق قبل انتهاء ولاية أوباما عام 2012 وفق حلّ الدولتين الذي وعد به. إلا أن دون هذا الأمر صعوبات جمّة (إن لم نقل تعذّراً كاملاً). من هذه الصعوبات ما يتأتّى من المعطى الداخلي في الولايات المتّحدة في مرحلة ستضطر أوباما الى التعايش مع مجلس نواب بأكثرية جمهورية، وفي هكذا مراحل تزداد الحاجة الى استمالة كتل الضغط أو "اللوبيات" لحشد التأييد، ومنها طبعاً اللوبي الداعم لإسرائيل. ومن الصعوبات أيضاً ما يظهر تقليدياً على المسؤولين الأميركيين (منذ أفول عهد جيمس بيكر عام 1992 على الأقل) من ميل لتجنّب كل ضغط جدّي على إسرائيل أو كل صدام معها طالما أن تجنّب هذا الصدام لا يتسبّب بخسائر سياسية أميركية تُذكر. وحتى لو أن بعض الأدبيات في المؤسسة العسكرية صارت تشير مؤخّراً الى أن جزءاً من متاعب أميركا الأمنية ومشاعر الغضب تجاهها تتأتّى من موقفها في الصراع الاسرائيلي الفلسطيني[3]، فإنه من غير المتوقّع أن يمارس أوباما ضغطاً كالذي مارسه بيكر عشية انطلاق مؤتمر مدريد، لسبين إسرائيلي وفلسطيني. فمن الناحية الاسرائيلية، يبدو أن الاسرائيليين قادرون على رفض ما يعتبرونه إملاءات أميركية لا ترضيهم (وتجربة نتنياهو في ما خصّ تجميد الاستيطان في الأشهر الأخيرة مشجّعة لهم) لأنهم محصّنون بميزان قوى ميداني وبتحجّج "ديمقراطي" مفاده أن المجتمع الإسرائيلي[4] يرفض "التنازل" للفلسطينيين. أما هؤلاء، المنقسمين بين سلطة عاجزة ومهشّمة في الضفة الغربية وحركة إسلامية في غزة تهتمّ "بالنهي عن المُنكر" وبقمع خصومها وإضعاف رمزية السلطة الوطنية أكثر من اهتمامها بأشكال إدارة الصراع مع إسرائيل، فتمزّقهم وفقدانهم المناعة تجاه دول المنطقة وحساباتها يجعلهم خارج القدرة على ممارسة أي ضغط أو التصدّي لأي ضغط دون أن يكون لذلك أثمان باهظة يدفعونها من دمهم وأرضهم وكيانهم المستقل...
ولا تبدو الحكومات العربية في هذه اللوحة عنصر ترجيح فلسطيني نتيجة لحساباتها المتضاربة ولمشاكل داخل الأنظمة تبدأ بالتوريث ولا تنتهي بهواجس الحفاظ على المواقع والعلاقات الضامنة الاستمرار في الحكم.

أما المفتاح الرابع، فهو تحسين صورة أميركا في العالمين العربي والإسلامي – بعد أن تحسّنت إثر خروج بوش من البيت الأبيض في كل من أوروبا وأفريقيا وأميركا اللاتينية – على نحو يتيح للإدارة الجديدة القول إنه منذ خطاب القاهرة لأوباما في حزيران 2009، ومنذ بدء الإقفال التدريجي لمعتقل غوانتانامو صار للولايات المتحّدة قدرة على التخاطب الودّي مع المسلمين بعيداً عن القسمة بين الخير والشر، وأن الأميركيين بالتالي خرجوا من حال العداء مع جزء من سكان المعمورة يغذّي الكراهية ضدّهم ويمدّ الإرهابيين بمبرّرات ومقولات يختبئون خلفها. غير أن المفتاح هذا لا يُطعم ولا يُشبع في السياسة إن لم يترافق مع إنجازات ميدانية لا تبدو الى الآن مرجّحة.


إيران في تقدّمها: بؤر توتّر ومواجهات بالواسطة

في مواجهة ما بدا وضعاً أميركياً شديد التعقيد، ظهرت إيران بين العامين 2003 وبداية العام 2010 في حال تقدّم سياسي وتمدّد ميداني في المنطقة. فالجمهورية الإسلامية المستفيدة من ارتفاع أسعار النفط على مدى سنوات، والمشتغلة على تطوير تسليحها وإطلاق برنامج نووي تشتري مستلزماته من روسيا، استفادت استراتيجياً من إسقاط الأميركيين لنظامي الطالبان في أفغانستان على حدودها الشرقية والبعث في العراق على حدودها الغربية. فهي تحرّرت من عبء التعامل مع نظامين معاديين وبدأت توظّف في استراتيجيّتها ثمار وجود حلفاء لها في البلدين ذوي قواعد اجتماعية ومذهبية، لا سيّما في العراق، أمّنا لها حضوراً مباشراً في ملعب الأميركيين، وقدرةً على تعميق مشاكل الأخيرين السياسية والأمنية ومدّ الجماعات التي تقاتلهم (وتتقاتل) بالدعم اللوجستي. وكل هذا بهدف تحصين موقعها التفاوضي أو الصدامي مع واشنطن، والدخول شريكة فاعلة في أي إدارة انتقالية لمرحلة ما بعد انسحابهم من بغداد وكابول.
يضاف الى ذلك أن إيران في تحالفها مع سوريا وفي دعمها لحركتي حماس والجهاد الإسلامي الفلسطينيتين وفي علاقتها العضوية مع حزب الله اللبناني تحوّلت لاعباً أساسياً في الصراع العربي الإسرائيلي وصاحبة موطئ قدم على شاطئ البحر المتوسط. وجاءت حرب تموز 2006 بين إسرائيل وحزب الله لتؤكّد الأمر ولتدعم الحضور الإيراني وتعزّزه سياسياً وعسكرياً ومعنوياً.
وأصبحت طهران بالتالي تمتلك عقيدة احتواء لخصومها ولأعداء برنامجها النووي على نحو يتيح لها تهديدهم بردود بعض حلفائها عليهم إن فكّروا بضربها، وبخلق بؤر توتير وقتال في أكثر من موقع تربك المخططات ضدها.
كما أنها حقّقت العام الفائت تقدّماً لبنانيا (داخلياً) مع حصول حزب الله على "الثلث المعطّل" في الحكومة رغم خسارته وحلفائه الانتخابات النيابية، وهو ثلث يمكّنه من تعطيل القرارات الكبرى للسلطة التنفيذية إن هو اعترض عليها لأسباب خاصة به أو بإيران نفسها.

وفي الأشهر الماضية، أضافت طهران الى الساحات الناشطة فيها، ساحة جديدة هي الساحة اليمنية، واقعة في الخاصرة السعودية ومهدّدة لها، تتكّئ فيها الى هشاشة قوام الدولة اليمنية والصراعات القبلية في ثناياها (وهيمنة "حاشد" على الخدمات والأجهزة الرسمية) لتدعم ما صار يُعرف بجماعة الحوثيين. والأخيرون اشتبكوا مع الجيشين اليمني والسعودي في موضع ليس بعيداً من حقول نفط الجزيرة العربية ولا من مضيق باب المندب الاستراتيجي بين القرن الأفريقي وآسيا. وفي ذلك بالطبع دلالات وإشارات هامة.

المفارقة أن هذا التقدّم الإيراني المهدّد أنظمة عدّة في المنطقة صار هو ذاته مصدر استنفاد للقدرة التوسّعية الإيرانية. ذلك أنه أنهى محاولات عدد من الدول الإبقاء على تواصل ولو بارد مع طهران (السعودية بخاصة)، كما أنه زاد من التوتّر المذهبي في المنطقة ومن الشعور "بمحاولات شيعية فارسية للهيمنة على أرض العرب السنّة" (وهي مقولة تتردّد حتى في البلدان البعيدة نسبياً عن الخليج – من مصر الى المغرب).
ومع أن النظام الإيراني نجح في استيعاب أزمته الداخلية بعد حزيران 2009 عقب الانتخابات الرئاسية، وضربه حركات الاحتجاج على نتائجها ولجمه التصدّع داخل "الاستابليشمانت" الحاكم، إلا أنه خسر بسببها بعضاً من قدرة المدافعين الغربيين عن التحاور معه على فرض منطقهم في مواجهة دعاة التصعيد ضده المتذرّعين باستحالة الوصول الى نتيجة عبر الديبلوماسية.

وإذا نظرنا الى بدء تصاعد العقوبات الدولية ضد طهران منذ أشهر بمبادرة أميركية – أوروبية وتزايد الالتزام بها، كما الى فشل المسعى التركي البرازيلي لإيجاد حل مقبول دولياً لقضية تخصيب اليورانيوم (لجهة النسب والكمّيات ومكان إجراء العمليات)، وإذا نظرنا أيضاً الى ارتفاع اللهجة النقدية بين موسكو وطهران، ثم الى تزايد العروض لسوريا بهدف فكّ تحالفها مع إيران (وتلعب كل من السعودية وفرنسا دورين رئيسيّين على هذا الصعيد، يتّخذان من الساحة اللبنانية أوّلاً[5] والعراقية ثانياً مسرحين لهما)، ثم الى بدء الضغط على دولة الإمارات لضبط حركة التهريب الكبيرة بين دبي والموانئ الإيرانية وزيارات مسؤولين أميركيين الى إندونيسيا وماليزيا لحثّهما على الالتزام بالعقوبات، يظهر أن حجم الضغوط على الجمهورية الإسلامية آخذ في التصاعد، وأن آثاره الاقتصادية أولاً ثم السياسية قد تضعف الاندفاعة الإيرانية، وهي وصلت أساساً كما ذكرنا الى لحظة الذروة ولم يعد بإمكانها الوقوع على ساحات إضافية يمكن الاستثمار فيها[6].

بناء على ما تقدّم، تبدو احتمالات الصدام الإيراني الأميركي متوقفة على مدى تعديل العقوبات لمواقف طهران. وهي قد ترتفع إن لم يتم الوصول الى حلحلة ما مع اقتراب استحقاق الانسحاب الأميركي النهائي من العراق العام المقبل (الذي يحرّر قوة عسكرية أميركية كبيرة من النار الإيرانية المباشرة أو بواسطة الحلفاء العراقيين). كما أن الدفع الإسرائيلي باتجاه الحرب مستمر، بحجة الخطر النووي أولاً، وبحجة الربط بين ضرب إيران وبين السلام السوري الإسرائيلي واستطراداً عزل حزب الله وحماس، أو حتى الهجوم عليهما في إطار اشتباك شامل، ثانياً.
لكن المؤكّد أن لا شيء تقرّر بعد، ولا تبدو إدارة أوباما في اللحظة الراهنة – كما يُنقل في التقارير البحثية والصحفية الأميركية – متحمّسة للحرب ولو أن مؤشرات التوتر الميداني تزداد ارتفاعاً. كما أن لمخاطر الحرب الكلية واشتعال المنطقة حسابات ليست بالبسيطة ولا نتائجها بالواضحة تماماً. فضربات موضعية لبرنامج إيران النووي قد لا تبقى مجرياتها محصورة، وفي كل هذا ما يقلق الدول الأقرب جغرافياً الى المنطقة، لا سيما الأوروبيين، ويدفعهم الى المطالبة بمضاعفة العقوبات الاقتصادية والضغوط الديبلوماسية تجنّباً للحرب وبحثاً عن مخارج غير عسكرية.

تركيا: دينامية جديدة؟

ثمة قناعة تُنقل عن المسؤولين الأتراك بوجوب لعب تركيا دوراً للتقدّم البطيء في مساحات ستنكفئ عنها واشنطن وطهران في المستقبل القريب.
ولعل في الحركة التركية في المرحلة الأخيرة ما يفسّر ذلك، بمعزل عن المبالغات المحيطة بها باعتبارها "عودة عثمانية"، أو عن التبخيس بآثارها الممكنة واعتبارها مجرّد تصريحات أو استعراضات. فالأرجح أن بين المبالغة تعظيماً والتبخيس انتقاصاً مكان وسيط يمكن الركون إليه لتقييم سياسات بدأت برفع وزارة خارجية أنقرة شعار "صفر مشاكل" (وفتح صفحات جديدة مع أرمينيا واليونان وتعزيز التعاون مع روسيا والصين)، ومرّت بخطابات حادة لرئيس الوزراء أردوغان تجاه الدولة العبرية (من دافوس الى اسطنبول) وانفجرت صداماً بين "أسطول الحرية" التركيّ المبادرة والانطلاق والجيش الاسرائيلي في عرض البحر المتوسط.

ولتركيا الدولة الآسيوية الأوروبية الأطلسية المسلمة العلمانية موقع إقتصادي وجيوستراتيجي وسياسي على قدر عال من الأهمية.
فأنقرة، المقيمة علاقة جيدة بإيران والمتمسّكة في نفس الوقت بعلاقاتها الوطيدة بواشنطن، تبحث عن سياسة ملؤها التوازنات (الداخلية بين الحزب الإسلامي الحاكم والمؤسسة العسكرية العلمانية، ثم الدولية). وفي لعبة التوازنات هذه ما يعطيها قدرات على المناورة، ولو ضمن هوامش ضيقة. فمقابل التصادم مع إسرائيل، ثمة حرص على التحالف مع الولايات المتحدّة، ومقابل المساعي مع إيران لإيجاد حلول للمأزق النووي، ثمة جذب لسوريا وتنسيق مع السعودية لاحتضان نظام دمشق إن هو ابتعد عن طهران، ومقابل التشدّد الأمني في الملف الكردي عراقياً ثمة انفتاح على بغداد سياسياً، كل ذلك مع عين مفتوحة على أوروبا وبحث مستمر للانضمام الى اتحادها.
وتركيا، الدولة السنية المحكومة اليوم بقيادة خلفيّتها أخوانيّة، تعي أيضاً أن لها تأثيراً في فلسطين قد يفوق التأثير الإيراني القائم على الدعم المادي. وهي تبدو متّجهة الى ممارسته من خلال مواصلة الضغط على تل أبيب عقب مجزرة السفينة التركية، ومن خلال السعي مع دول غربية لتخفيف الحصار عن غزة أو فكّه ليكون باكورة إنجازاتها.

على أن تركيا تبقى حتى الآن، بمعزل عن خطابية رئيس وزرائها وعن رفع أعلامها في حواضر عربية، حذرة ومبقية خياراتها مفتوحة و"خطوط الرجعة" لديها قائمة، بانتظار اتّضاح ما سينجم عن تلاقي الديناميتين الإيرانية والأميركية.

الشرق الأوسط يبدو إذن، في الأشهر الأخيرة من العام 2010 في لحظة حاسمة تتقاطع فيها مصالح واستراتيجيات دول، وينتظر كل طرف ميل الكفة باتجاهٍ لتحديد موقعه وإعادة رسم خطوط اشتباكه وأولويات أحلافه.
وهو يبدو كذلك، بثابته الصراعي الاسرائيلي الفلسطيني، كما بالمتحرّك فيه إيرانياً وأميركياً وتركياً، مُقبلاً على مرحلة قد تعيد صياغة خريطته السياسية أو قد تجعل من كسب الوقت وسيلة للأطراف الأساسية للبحث في صيغ حلول ومخارج، لا تبدو متوفّرة الى الآن.

والشرق الأوسط يبدو أيضاً، ربطاً بكل ذلك وبناء عليه، مجموعة كيانات وحيويات قادرة غالباً على التقاتل لتزاوج الهشاشات الوطنية والطائفية والقبلية فيها مع المصالح الاقتصادية والنفطية والاستراتيجية الهادفة الى الهيمنة عليها.

زياد ماجد
مقال خاص لمجلة كلمن، عدد 1، خريف 2010


[1] هي تبسيطيّات تتغنّى بفشل جلب الديمقراطيات على ظهور الدبابات، ثم تتباهى بالفوضى الدموية في العراق بوصفها دليلاً على الفشل الأميركي، قبل أن تعود وتتّهم الأميركيين بالوقوف خلف الفوضى إياها أي حول ما سبق واعتُبر دليلاً على فشل احتلالهم...
[2] يُظهر تعثّر إعادة تشكيل السلطة التنفيذية العراقية بعد مضي أشهر طويلة على الانتخابات التشريعية الأخيرة انعكاساً لتدخّل دول الجوار لدى القوى القريبة منها، تماماً كما يُظهر صعوبة المعطى المذهبي والسياسي العراقي الداخلي مع عجز أيّ من الأطراف الأساسية على تشكيل حكومة من دون موافقة طرف قوي آخر وبشروط غالباً ما تكون صعبة التلبية.
[3] تقرير الجنرال بتراوس أمام أحدى لجان مجلس الشيوخ في آذار 2010 هو أبرزها نظراً لموقع الرجل ورتبته، وهو قال إن مصالح الولايات المتحدة وعلاقاتها مع العرب متضرّرة نتيجة لما يُعتبر تحيّزاً من واشنطن لتل أبيب وسياساتها تجاه الفلسطينيين.
[4] الذي صار بأكثرية كبيرة يصوّت لليمين واليمين المتطرف لأسباب منها ديموغرافية (مع موجات الهجرة الروسية المتتالية) ومنها سياسية اقتصادية (مع انهيار معسكر اليسار وابتعاد بعض مكوّناته عن القضايا المتعلّقة بالصراع مع الفلسطينيين وانحسار اهتمامهم بقضايا داخلية إسرائيلية).
[5] تدخل في هذا النطاق الجهود المبذولة لطمأنة نظام دمشق لبنانياً ودفع رئيس الحكومة لمصالحتها. كما تدخل النقاشات حول مفاعيل الفرار الظني للمحكمة الخاصة باغتيال الرئيس الحريري والسعي لتأخير صدوره.
[6] الحديث عن الأقليات الشيعية في شرق المملكة السعودية وفي الكويت، وعن الأكثرية إياها في البحرين، أو عن الجالية الإيرانية وأموالها في الإمارات مبالغ فيه، ذلك أن تحرّك هؤلاء يعني تفجيراً للمسألة السنية الشيعية على نحو غير مسبوق وغير مرغوب به إيرانياً (على الأقل في هذه المرحلة)، ليس لكون الشيعة أقلية في العالمين العربي والإسلامي فحسب، بل أيضاً لكون إيران تحتاج الى "المشروعية الإسلامية" في مواجهتها مع الغرب وإسرائيل.