ثمة مفارقات سياسية في لبنان يصعب تخيّل وجودها في بلدان كثيرة غيره.
فأن ينتقل الناس في غضون ساعات من هاجس متابعة مجريات الأزمة النووية الإيرانية وتعقيداتها الإقليمية والدولية وانعكاساتها اللبنانية والسورية والعراقية والفلسطينية (والصينية أحياناً) الى الهوس بنتائج انتخابات المخاتير في أحياء الأشرفية وزحلة وجب جنين وبعلبك (وقبلها جبيل ودير القمر والحدث..)، فالأمر مدعاة تفكّر في قدرة تكيّفهم العالية وسرعة "الركلجة" الجماعية عاطفياً وذهنياً عندهم.
وإذا أضفنا الى ذلك، تفنّنهم في التعليق على المجريات والنتائج وتقليب السيناريوهات وتبنّي النظريّات وتنقيح المعلومات والأرقام ودمجها بالتمنيات وتقديم المسائل جميعها وكأن كل راوٍ وصحبه شركاء في صنعها – إن في البيت الأبيض أو في مجلس الأمن أو في أروقة الحرس الثوري أو في مطابخ المخترة وعمادة العائلات – تصبح المفارفات استثناء وطنياً لا شراكة مع أحد خارج الحدود فيه!
ويمكن بالطبع تفسير ذلك جزئياً وردّه الى مجموعة مسبّبات. منها صغر حجم البلد ووجود أكثر من ثلثي سكانه في 6 أو 7 مدن كبرى مع استمرار ارتباط معظمهم بقراهم الأصلية وأماكن قيدهم وانتخابهم. ومنها حدّة الانقسامات فيه وعاموديّتها التي تهمّش الطبقات ومستويات التحصيل العلمي خالقةً تواصلاً طوائفياً يذيب أكثر الحدود. ومنها فائض حيوية شعبي وحراك صحافة وإعلام يؤمنان تغطية للأحداث تثير على الدوام التماثل أو التعارض مع الفاعلين فيها. ومنها أيضاً تعاظم الأهوال من حول لبنان وهيمنة شعور داخله ولدى المتعاطين بشأنه بانكشافه الأمني والسياسي (والاقتصادي بطبيعة الحال) عليها الى حدّ يلغي معنى سيادته الترابية والديبلوماسية، وحتى البلدية...
لكن ثمة أسباباً أخرى تجعل – على الأرجح - علاقة اللبنانيين حميمة الى هذا الحدّ بمستويي السياسة "الماكرو" و"الميكرو" في حدودهما القصوى التي ذكرنا.
أحدها، البحث الدائم عن ضرورة "أخذ موقف" من كل شيء: موقف لا جغرافية إلزامية له، إذ يمكن أن يكون دولياً أو قروياً، شرط أن يبقى صِدامياً، يسمح بالتمترس خلفه لمواجهة آخرين...
وثانيها الإدمان على الصراعات والإثارة: فقد مضى أكثر من نصف قرن على اللبنانيين وهم في علاقة بالسياسة تقوم على القضايا الكبرى وعلى الحروب والتطاحن والمصالح "العظمى"، حتى إذا أتتهم معارك مخاتير أحياء في بلدهم، ارتدّوا إليها بسرعة وعطفوا عليها استفتاءات على المقاومة وعلى الشهداء وعلى العيش المشترك والسلم الأهلي، وتابعوها كما كانوا ليتابعوا التصويت في الأمم المتحدّة على عقوبات أو محاكمات أو محاولات إحياء مفاوضات أو غيرها من شؤون.
هل يُستنتج مما ذُكر شيئٌ؟
ربما. أن معظم اللبنانيين في بحث لا يكلّ عن انتماءات متضاربة وعن أفياء رايات يعلونها في وجوه بعضهم... والمونديال قادم - بأعلامه و"نون الجماعة" التي ستزيّن مناكفاتهم المحيلة الى تملّك بلاد وفِرق ولاعبين لا شأن لأكثريتهم بهم - ليؤكّد الأمر، ولو على نحو محبّب هذه المرة...
زياد ماجد