Monday, February 2, 2009

الذاكرة الانتقائية


عبّر خطاب أمين عام حزب الله السيد حسن نصر الله الأخير، في ما خصّ قضية الديبلوماسيين الإيرانيين الأربعة المفقودين، عن مفارقات تعكس ثقافة سياسية لا تكتفي بتطهّرية وبتعالٍ على الأحياء، بل تعمد أيضاً الى التنقيب في ذاكرة، هي إنتقائية أصلاً، بحثاً عن مفقودين أو أموات لتوزيعهم مراتب، ثم لإدانة الخصوم من خلالهم

بهذا المعنى، يعمد السيد نصر الله الى استذكار ضحايا أربع لجريمة لا شك وحشية، لكنه يغفل أن فظاعتها كانت جزءاً من فظاعات شهدتها الحرب الأهلية اللبنانية، ولم يقصّر أكثر أطرافها في ارتكابها. فإلى جانب آلاف المفقودين اللبنانيين الذين لم يُعرف لهم مصير واضح، أو مقبرة جماعية واحدة، فُقِد واغتيل في لبنان عشرات الأجانب، من بينهم الايرانيون الأربعة، ومن بينهم أيضاً ديبلوماسيون وصحافيون وباحثون، نُقلت منذ سنوات قليلة رفاة أحدهم، ميشال سورا، من الضاحية الجنوبية لبيروت الى باريس

وإذا كان الاستذكار الانتقائي لأربع ضحايا يستهدف اليوم جهة سياسية بعينها (هي بالمناسبة الوحيدة التي حوكمت بعد الحرب ودفع زعيمها دون سواه ثمناً لبعض ماضيها، ثم اعتذر مرّتين فيما لم يُسمع لغيره، إذا ما استثنينا وليد جنبلاط، أي اعتذار)، فإن في خلفيّته (أي الاستذكار) ما يُحيل الى زعم لطالما كرّره حزب السيد نصر الله دفاعاً عن ملكيّته السلاح، ومفاده عدم انخراط الحزب في الحرب الأهلية اللبنانية. وفي ذلك، وبمعزل عن تهافت الزعم نتيجة ما نعرفه عن حقبة الثمانينات - إشتباكات محور مار مخايل (على خطوط التماس بين "المنطقتين")، ومعارك مشغرة والبقاع الغربي (مع الحزب القومي)، وملاحم الضاحية وإقليم التفاح (مع حركة أمل)، وما يُحكى عن المسؤولية في الاغتيالات التي استهدفت كتّاباً وناشطين شيوعيين - إدّعاء تسامٍ وترفّع فوق المواجَهين، أو اعتبار مواجهتهم جزءاً من المقاومة لإسرائيل وأعوانها المتبدّلين في كل زمن ومنطقة!
وإذا عطفنا على ما ذُكر، ما يردّده السيد نصر الله، من تقييم لجمهوره يجعله "أشرف الناس"، ومن تصنيف للبشر في تعاطيهم مع الاحتلالات بين "مقاومين وحائرين ولا مبالاين وانتهازيين وعملاء"، وصلنا الى منظومة "فكرية" تتعاطى مع الأفراد، أحياء وأموات، إنطلاقاً من إسقاطات صارمة لا تمتّ بصلة الى فلسفة المواطنة والى فكرة المساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات في الدول "الحديثة".
بهذا، تصبح القسمة التي يعتمدها السيّد، على تبسيطيّتها وخطورتها، قاعدة لقراءة الماضي والحاضر والمستقبل، ضمن ثابت وحيد، هو موقف حزبه في كل حقبة من سائر الأطراف. وهكذا، تُخلع على البعض عباءات الشرف، وعلى البعض الآخر أقنعة العمالة، فيما تتبدّل أثواب البقية انطلاقاً من مدى انصياع لابسيها للحزب وخطاباته...

وبالعودة الى الديبلوماسيين الإيرانيين الأربعة، ينبغي من دون تردّد القول إن كشف مصيرهم ضروري. لكن كشف مصير جميع مفقودي الحرب الأهلية، كما الاعتذار الصريح منهم ومن ذويهم، ضروري أيضاً. ذلك أن المصالحة الفعلية بعد الحروب، مع الذات ومع الآخر، تتمّ من خلال الاعتراف بالأخطاء والخطايا والقبول بالتشارك في تحمّل المسؤوليات، وتحويل الذاكرة من مصنع للبغضاء الى مكمن للمسامحة.
أما التطهّر وتعريب الناس كما الموتى والمفقودين بين خيّر وشرّير، ففوقيّة تتخطّى وباء الغرور الى خطر نكء جراح واستثارة عصبيّات نحن اليوم أبعد ما نكون عن الحاجة إليها.
زياد ماجد