لم تشهد المنطقة العربية منذ
نكبة فلسطين عام 1948 حدثاً مزلزلاً بحجم الحدث السوري المستمر منذ قرابة العامين.
ليس لأن الحدث هذا ثورة بكل ما تحمله الكلمة من جذرية معانٍ ودلالات فحسب، بل لأنه
أيضاً هدمٌ لسياسات ومفاهيم "وطنية" وإقليمية ولمنظومة ثقافية شوّهت
عقولاً ولغة وسلوكاً سياسياً في سوريا ومحيطها منذ نصف قرن.
الثورة
إذ تهدم الإستبداد ومفاهيمه قبل هدم نظامه
أدهش اندلاع الثورة في سوريا
أكثر السوريين، ومعهم أكثر العرب. فالتوقّعات بوصول "الربيع العربي" الى
"بلاد البعث" كانت شبه معدومة، على افتراض أن جدران الخوف التي شيّدها
نظام الأسدين كانت شديدة السماكة، وأن القمع لم يكن افتراضاً أو احتمالاً في
سوريا، بل ذاكرة ملؤها الأشلاء والدماء.
على أن شهر آذار 2011 أظهر
تهافت التوقّعات هذه، وصدّع جدران الخوف التي راحت تتهاوى شهراً بعد شهر مسقطة
الاستبداد في سطوته الرمزية وفي طغيانه واحتلاله البلاد بطولها وعرضها. ورغم العنف
الهمجي والقتل والاعتقال الذي قابلت به السلطات المتظاهرين وتلامذة المدارس والكتّاب
والفنانين، فإن الثورة استمرّت وحطّمت تماثيل المستبدّ، ثم حرّرت اللغة من الرعب
الذي سكن مفرداتها لعقود طويلة. وكان للفن وللسخرية التي رافقت المتظاهرين وصرخات
الحرية التي هتفوا بها أن سمحت للإبداع المكبوت بالتفجّر، وأتاحت للناس المهمّشين
و"المسحوقين" سياسياً واجتماعياً التنكيل بشخص المستبدّ وبنسَبه العائلي
الذي سعى القمع على الدوام لإضفاء هالة قدسية عليه (وهذا في ذاته تحرّر من
المنظومة غير المرئية التي يغلّف الاستبداد المجتمع بها)...
ثم كانت العسكرة الاضطرارية
للثورة وتحوّلت الأمور تدريجياً ابتداءً من مطلع العام 2012 الى النضال المسلّح
الذي، كما في الحالات الثورية تاريخياً، يُخرج كل ما في المجتمع من كفاحية وإقدام وتعاضد
وكل ما فيه أيضاً من عنف وكبت وكراهية وأنانيّات. وبذلك، انتقلت الثورة السورية في
صراعها مع نظام الاستبداد الى طور تجاور فيه القتال والتظاهر، وتقدّم الثوار على
الأرض محرّرين مساحات واسعة من سوريا، وأصبحت البلاد كلّها باستثناء ساحلها في
حالة مواجهة مع النظام، سلمياً أو عنفياً أو تضامناً مع ضحاياه واستقبالاً لهم.
في المقابل، اعتمد نظام الأسد
الإبن الفاقد قدراته "التدجينية" على القتل ومشهديّته الوحشية وعلى التمثيل
بالجثث والتدمير المنهجي للمناطق المنتفضة عليه أو المحرّرة من احتلاله العسكري
والأمني. واعتمد كذلك على نيران مدافعه وطائراته ودبّاباته للانتقام من المجتمع
الثائر، معمّماً عنفه المفرط على نحو لا يبدو من خلاله أنه يسعى لإعادة بناء الخوف
والسطوة الاستبدادية المتداعية، بل ينتقم من الثورة ويحاول إبادة القائمين بها
وأمكنتهم وناسهم وعمرانهم وأرزاقهم، علّه في ذلك يُطيل عمره أو يُغرق ما يعدّه "مُلكه" معه.
ورغم هول المصائب التي أنزلها
النظام مدعوماً من روسيا وإيران بالسوريين، ورغم انفلات العنف وبروز مشاكل سياسية
واجتماعية وطائفية وقومية بعضها قديم كامن وبعضها نشأ في كنف الاستبداد وظلّ حضوره
مكبوتاً مغطّى بادّعاءات نقيضه، ورغم محاولات أطراف إقليمية ودولية الاستفادة من
الظرف السوري لصالحها لتحسين مواقعها في منظومة العلاقات الدولية أو في التنافس
والتناحر الشرق أوسطيّين، إلا أن الثورة السورية فتحت الباب أمام السوريين لإعادة
بناء السياسة انطلاقاً من أولوية الحرية، وانطلاقاً من اعتبار الكرامة الانسانية
شرطاً لكل تعاقد. وهذا يعني في ما يعنيه القضاء على الفلسفة التأسيسية للنظام
السوري، الذي تشاركه فيها قوى قومية ويسارية وإسلامية عربية، القائمة على التذرّع
بالصراع مع إسرائيل والامبريالية تارة والسعي للوحدة العربية تارة أخرى، لمنع
الحرّيات وفرض قانون الطوارئ على المجتمع واستحداث الأجهزة الأمنية والحزبية (الفاشية)
لمراقبة الحياة العامة (وأحياناً الخاصة) للمواطنين. كما يعني أيضاً رفض الابتزاز
بالاستقرار الأمني لمنع التنوّع الفكري، ورفض مبدأ السجن السياسي والرقابة
بالمطلق، وتعرية زيف ما اصطُلح على تسميته "ممانعة"، خاصة حين يُستخدم
شعاراً للتعمية على التفاوض مع الأطراف الدولية بهدف تأمين استمرار السلطة، أو حين
يُستخدم لتوظيفه في أدوار إقليمية على حساب الفلسطينيين واللبنانيين والسوريين
أنفسهم، وبعيداً عن الجولان المحتل وعن الردّ المُفترض على الانتهاكات الاسرائيلية
للسيادة السورية...
الثورة
السورية ولبنان
وبقدر ما يعقّد موقع سوريا
الاستراتيجي في المنطقة أوضاعها الداخلية وتعامل القوى الدولية معها، ويزيد من
تعرّجات مسارات ثورتها، بقدر ما يضاعف من عمق أثر هذه الثورة في محيطها المباشر. ولما
كان لبنان الجار الأصغر الذي أمضى 29 عاماً تحت الهيمنة الجزئية أو الكاملة للنظام
السوري، هو منذ أواخر الخمسينات الأكثر عرضة لتأثيرات المحيط نتيجة هشاشة إجماعاته
الوطنية، فإنه مرشّح للتأثّر أكثر من غيره بالحدث السوري، لسببين: أوّلهما تحرّره
المفترض من الضغطين الأمني والسياسي اللذين مثّلهما نظام الأسد على تركيبة السلطة
وتوازنات القوى فيها. وثانيهما ما سيترتّب على ذلك من أوهام وهواجس لدى العديد من
الأطراف اللبنانية قد لا توفّر البلاد من تجدّد التأزّم والاحتقان.
بهذا المعنى، فإن طي صفحة حكم
الأسد في سوريا سيترافق مع تغيير لشكل العلاقات الرسمية السورية اللبنانية
وللتحالفات المعقودة في إطارها، وسيعدّل على الأرجح موازين القوى المذهبية
اللبنانية وثقل حضور رعاتها الإقليميين (إيران والسعودية بخاصة). غير أن عمق
التغيير وآليات حدوثه وسرعتها سترتبط بالطريقة التي ستُطوى فيها صفحة الأسد،
وبخصائص الوضع الذي سيواكب انهيار ما تبقّى من حكمه، وبطبيعة المرحلة سورياً التي
ستلي هذا الإنهيار. وفي جميع الأحوال، فإن البحث اللاحق في كل هذا لن يستطيع أن
يغفل مؤدّيات ما يبدو صعوداً سياسياً "سنّياً" في المنطقة وتأثير الأمر
على حزب الله حليف إيران ونظام الأسد الوثيق، والمحرّض الأول ضد الثورة بوصفها
مؤامرة و"مشروعاً أميركياً".
أما في ما خصّ الأوهام التي
يمكن أن تحرّك بعض القوى اللبنانية بناء على ما تعتقده حاصلاً نتيجة لانتصار الثورة
السورية والتقدّم "السنّي"، فالأمر لن يكون جديداً في السياق اللبناني،
ولو أنه سيفاقم ككل مرّة التشنّج السياسي والطائفي في البلد. ذلك أن أكثر من قوة
لبنانية تقرأ المنطقة انطلاقاً من حساباتها المحلية، وتبحث في تموضعها عما تظنّه
تحصيناً مستقبلياً لها في مواجهة خصومها. وهذا يُنتج في ظل الانقسامات العامودية المجتمعية
توتّراً ومشاحنات دورية يصعب في الكثير من الأحيان لجمها.
وإن تركنا التبعات السياسية "الرسمية"
والطائفية للحدث السوري لبنانياً، يمكننا التوقّف عند أمرين يكتشفهما اللبنانيون (كما السوريون) على نحو مستمر منذ قرابة العامين. والأمران عبارة عن ظاهرتين
متناقضتين: الأولى متّصلة بتفاقم الحالة العنصرية لدى قسم من اللبنانيين لأسباب
يمتزج فيها الطائفي بالشوفيني والتوجّس بالاستعلاء؛ والثانية مرتبطة بالانخراط
المضاد في أنشطة إنسانية وإعلامية وكتابية وطلابية دعماً للثورة السورية وانبهاراً
بها، ولأسباب لا علاقة لها في أكثر الأحيان بالقضايا الداخلية اللبنانية. وفي الظاهرتين
ما يحيلنا الى القول إن الثورة السورية تُخرج في لبنان – كما فعلت وتفعل في سوريا –
أبشع ما في مجتمعه وأبهى ما فيه في الوقت نفسه...
الثورة السورية المستمرّة
تتخطّى، إذن، في تأثيراتها الكبيرة حدود سوريا. وسيكون لاكتمال حدثها أن يؤسّس لمرحلة
جديدة في المنطقة، ليس من السهل توقّع ملامحها. لكن ما يمكن تسجيله واعتباره منذ
الآن حاصلاً يتّصل بما أنجزته الثورة في الأشهر الطويلة الماضية من ضرب لمرة
و"الى الأبد" لركائز الاستبداد البعثي العسكري الأسدي وثقافته، وتقليص
الرصيد الأخلاقي الإقليمي والدولي لجميع المدافعين عنه وإعادة بعضهم – كما حزب
الله – الى حجمه الطبيعي كقوة مذهبية محلية، بعد أن كان الفراغ السياسي السابق
للثورات العربية، والسورية خصوصاً، جعله في قتاله إسرائيل "بدلاً عن
ضائع" وقوة إقليمية.
والثورة السورية المستمرّة تعيد
السياسة في سوريا ولبنان، كما في كل المنطقة، الى الأسئلة التي قفزت عقود من الحكم
الشمولي فوقها: ماذا نفعل بهويّاتنا وكيف نركّبها؟ وماذا نفعل بمواطنيّتنا وكيف
نبينها؟ وماذا نفعل باختلافاتنا وكيف نديرها من دون قتل وزنازين؟
وليست الإجابة عن الأسئلة هذه
الى الآن يسيرة أو على الأقل كافية للحدّ من الصعوبات الجمّة التي نكتشفها يوماً
بعد يوم، والمرشّحة للتفاقم في المقبل من الأيام...
زياد ماجد
مجلّة دمشق - العدد الأوّل