Sunday, December 27, 2020

عام التمثيل والافتراض أمام الشاشات وخلفها

 تبدو مدرّجات ملاعب كرة القدم المهجورة رغم استمرار المسابقات واحتدام البطولات وإتمام الصفقات والتعاقدات من أكثر ما يجسّد المفارقات والتناقضات التي عشناها طيلة العام 2020 وإيقاعاته المتباينة.

فمشاهدة المباريات عبر الشاشات ومتابعة النتائج والتعليقات عليها يعطيان الانطباع لوهلة أن الأمور طبيعية، وأن الزمن الناظم للأسبوع وفق جدول كروي لم يتبدّل، ومثله البثّ المباشر وما نقف عليه من جهد وحركة وسرعة على أرض الملعب مضبوطة جميعها الى ساعة حكمٍ تعلن بدايةً ونهايةً وأوقاتاً مستقطعة. لكن مفاجأة سماع أصوات اللاعبين والمدرّبين والحكّام إذ يتبادلون بعض العبارات أو التعليمات والاستفسارات أو يصرخون فرحاً أو استياءً أو ألماً، يذكّرنا أن صمتاً ثقيلاً يُحيط بهم أتاحه غيابُ المشجّعين عن المدرّجات، وأنهم في موقع معزول ومسيّج بالحواجز ومنع المرور، يركضون وحيدين داخله ويحتفلون أو ينكسرون أمام عدسات هي منفذهم الوحيد الى مشاعر البشر الآخرين وانفعالاتهم. كأنّهم يمثّلون اللعب أمام الكاميرات لتنقل لنا ما يفعلون، فنمثّل بدورنا ونُسرّ أو نسأم كما لو أننا في أمسية حياة عادية اقتطعنا منها على سابق عهدنا وقتاً للمباراة المنتظرة وحماسها.

Sunday, December 13, 2020

أهوال العام 2013 التي غيّرت سوريا والعالم

 مرّت في العاشر من شهر كانون الأول/ديسمبر الجاري الذكرى السابعة لاختطاف مجموعةٍ، تُشير جميع القرائن الى انتمائها الى "جيش الإسلام"، أربعةً من أبهى وجوه الثورة السورية المغدورة في مدينة دوما في غوطة دمشق الغربية: رزان زيتونة وسميرة الخليل ووائل حمادة وناظم حمادي.

قبل اختطافهم بشهرين، كان نظام الأسد في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2013 قد تمكّن من اعتقال فائق المير في دمشق، بعد أن غيّب أو قتل في السنتين الأوليين اللتين تلتا اندلاع الثورة أفراداً مثل عمر عزيز ويحيى الشربجي وغياث مطر ومعن العودات وفاتن رجب وجهاد محمد وعلي الشهابي وخليل معتوق وعبد العزيز الخيّر، وتكفّل حلفاؤه باغتيال مشعل تمّو، واضطر الى مغادرة سوريا بعد تعذّر التخفّي داخلها العشرات من أمثالهم، ممّن كانوا على اختلاف منابتهم وتجاربهم ومقارباتهم السياسية ونشاطهم، قادةً محليّين أو ناشطين سياسيّين أصحاب مشروعية شعبية وخطاب وطني وعلاقات تهدّد النظام وفلسفته الطائفية للسياسة والعنف والاصطفاف في سوريا.

Sunday, November 29, 2020

التطبيع كما الممانعة أداة لتكريس استبداد مديد

تتسارع منذ أشهر وتيرة التطبيع السياسي بين عدد من الدول العربية وإسرائيل. فبعد الإمارات والبحرين، تبدو اليوم السعودية والسودان على مقربة من خطوات اعتراف ديبلوماسي بتل أبيب أو تبادل زيارات وبحث في تعاون ثنائي أمني واقتصادي معها. وإذا كان في توقيت القرارين الإماراتي والبحريني (غير المفاجئين) ما وشى بمحاولتين بائستين من أبو ظبي والمنامة لدعم حملة دونالد ترامب الانتخابية في شوطها الأخير، فإن في السعي السعودي والسوداني راهناً ما يرتبط بمحاولات تبييض صفحة وليّ عهد الرياض أميركياً (في جريمة قتل الصحفي جمال الخاشقجي) من جهة، وجذب استثمارات بعد رفع عقوبات واشنطن عن الخرطوم مؤخّراً من جهة ثانية.

Sunday, November 15, 2020

سكاكين للمقبل من الأيام

كُتب الكثير حول الجريمتين اللتين استهدفتا مدرّس التاريخ صمويل باتي قرب مدرسته في مدينة كونفلان الفرنسية والمصلّيتين في كنيسةٍ والعامل فيها في مدينة نيس، جنوب البلاد.

النص هذا، الذي نُشر في موقع ميغافون، مساهمة إضافية في النقاش حول الحدثين، عبر تذكير بمسألتين أساسيّتين.

الإسلاموفوبيا والإسلاموغوشيست

كثُرت في الحلقات الأكاديمية الفرنسية، بعد الجريمتين الهمجيّتين ضد مدرّس التاريخ والمصلّيتين والعامل في الكنيسة، النقاشات والنصوص الجماعية حول مسألة الحرّية الفكرية واستقلالية التدريس ومناهجه وعلاقة الأمر بالعلمنة والإسلام والعنف والأبحاث الـ"بوست-كولونيالية" (الـ"ما بعد استعمارية"). وكثُرت بموازاتها مقالات الرأي والافتتاحيات التي وقّعها أفراد ذوو تأثير في الأوساط الثقافية الفرنسية حول المسألة إياها. 

ولعلّ ما حرّك جزءاً من النقاشات والكتابات هذه كان مواقف الحكومة التي عبّر عنها رئيسها إذ رفض مشروعيّة البحث في ماضي فرنسا الاستعماري لتفسير العديد من الظواهر السياسية والمجتمعية الراهنة، خاصة تلك المتعلّقة بالعنصرية وبالتوتّرات في ضواحي المدن الموسومة فئاتها الشابة "بالتحوّل المتوحّش"، وفق تعبير وزير الداخلية. واقترح وزير التربية الوطنية، استكمالاً للمواقف ذاتها، أن يُعاد النظر ببعض المواد المدرّسة في الجامعات، متّهماً ما أسماه "الإسلامو-غوشيست"، إي "اليسار المتعاطف مع الإسلاميين" داخل الأجسام التدريسية والطلابية، أو اليسارويين الإسلاموَيين (في ترجمة حرفية للمصطلح)، بالتسبب بأضرار جسيمة، لم يحدّدها، وبدفع البلاد نحو الأسوأ. 

Sunday, November 1, 2020

القتل بالسكين الذي لا إصلاح دينياً يردعه ولا نهاية قريبة لمسلسله

سادت اتجاهات ثلاثة في أكثر الكتابات العربية المعلّقة على جريمتي ذبح مدرّس التاريخ الفرنسي والسيّدتين المصلّيتين داخل كنيسة وأحد العاملين فيها في مدينة نيس جنوب فرنسا. الاتجاه الأول تبريري، استنكر بالكاد الجريمتين وعطف على استنكاره الخجول تحميل المسؤولية الأولى لفرنسا ولعلمانيّتها المتشدّدة وتاريخها الاستعماري وقوانينها التي أتاحت رسوماً يعدّها مسيئة للإسلام ونبيّه، وللغرب عامة وسياساته تجاه البلاد ذات الأكثرية المسلمة.

الاتجاه الثاني، أقلّ تبريرية، إذ استنكر بوضوح الجريمتين، لكنه خفّف من وزرهما ووضعهما في سياق عام من الجرائم، منزّهاً "الإسلام الحقّ" والمسلمين عن المقتلتين وعن كل أزمة أشار ماكرون إليها في معرض حديثه الأخير عن المسألة الإسلامية.

أما الاتجاه الثالث، وطابعه أكثر نخبوية وأقل حضوراً، فانطلق من أن الحديث عن التاريخ والسياقات السياسية والاجتماعية هو بمجمله تعمية عن الموضوع الفعلي الواجب طرحه والتعامل معه، أي موضوع الإسلام بوصفه منظومة دينية وسياسية مأزومة ومولّدة للعنف إن في المجتمعات المسلمة أو عبر الحدود نحو العالم الأرحب. والمطلوب بالتالي إصلاح ديني وتغيير في الثقافة الإسلامية ومسلكيّات المنتمين إليها.

وإذا كان السجال مع الاتجاهين الأولين غير مجدٍ، إذ أن عدم القول القاطع بأن الجريمتين - كما جميع الجرائم التي سبقتهما في فرنسا وسواها – توحشّ وفظاعة مقزّزة بمعزل عن كلّ الظروف والسياقات الواجب تحليلها، وأن لا رسماً ولا كتاباً ولا كلاماً يمكن أن يبرّر اعتداءً فكيف بالذبح والقتل واستهداف مدرّسين ونساء في دور عبادة، فإن السجال مع الاتجاه الثالث ضروري للتذكير بعدة أمور.

Saturday, October 31, 2020

عن "أزمة الإسلام": دفاعاً عن الحق في النقاش

 جاءت جريمة قتل مدرّس التاريخ الفرنسي صامويل باتي، بفظاعتها ورمزيّتها، بعد سلسلة من العمليّات الإرهابيّة التي اقترفها شبّان مسلمون، فرنسيّون أو مُقيمون في فرنسا في السنوات الأخيرة، لتدفع الانفعالات إلى مستويات بالغة الحدة، وتلغي لأيامٍ أو لأسابيع إمكانية الكلام المعقول، جاعلة النقاش في كل ما يتصل بالشأن الإسلامي مستحيلاً أو يكاد.  

يدفعنا الأمر، بوصفنا ديمقراطيين علمانيين متحدّرين من المشرق العربي ومن ميراث شكّل فيه الإسلام رافداً أساسياً، إلى التأكيد بدايةً بأن التواصل بين مختلفين والبحث الشائك في المسائل المعقّدة هو ما يكسر عسكرة التفكير والثقافة التي يدفعنا إليها عدميون إسلاميون مثل القاتل عبد الله أنزوروف ومحرّضوه وأشباه لهم كثيرون، يكونون بخير كلما نجحوا في حفر خنادق أعمق تفصل مجتمعات المسلمين عن العالم حولهم. ويدفعنا إلى القول ثانياً إن العسكرة المذكورة لا تقتصر على العدميين الإسلاميين هؤلاء، إذ ثمّة متطرّفون كثيرون في الغرب يريدون بدورهم تعميق الخنادق والعيش في قلاع محصّنة لا تبالي بما يجرى حولها وفي مناطق على هامش مركزها. 

لقراءة هذا النص الموقّع من ياسين الحاج صالح وفاروق مردم بك وزياد ماجد على موقع الجمهورية، يمكن الضغط هنا.

Sunday, October 18, 2020

سوريا المنسيّة

غيّبت أحداث كثيرة الشأن السوري إعلامياً وسياسياً في أوروبا الغربية وأمريكا منذ بدايات العام الحالي. فالأزمات الصحية والاقتصادية والاجتماعية الناجمة عن انتشار فيروس كورونا والمتابعة اليومية المكثّفة والمستمرّة لها من جهة، وتوالي الأحداث الشرق أوسطية والشمال أفريقية في العراق وليبيا ثم في لبنان وقبلها في الجزائر والسودان، ومعها أخبار التطبيع الإماراتي والبحريني مع إسرائيل من جهة ثانية، أبعدت سوريا عن "رادارات" التغطية وعن المراصد المتابعة لشؤون المنطقة. وصار الصراع الدائر فيها وعليها يبدو "نزاعاً" بعيداً عن الاهتمام الذي كان يثيره في العديد من الأوساط الصحافية والسياسية في السابق. ولولا الأحاديث المتفرّقة والمقالات القليلة التي تتناول ظاهرة المرتزقة السوريين المقاتلين في ليبيا، وفي الحرب الجديدة المندلعة بين الأذر والأرمن في نقورني كاراباخ، لأمكن القول إن التذكير بالمسألة السورية بات حكراً على بعض المتابعين الناشطين في شبكات التواصل الاجتماعي، وبعض الباحثين ممّن ظلّت سوريا حقل اختصاصهم.

Sunday, October 4, 2020

دونالد ترامب أو الكارثة الديمقراطية

لم تُسئ ظاهرة في العالم منذ عقود الى فلسفة الديمقراطية وقيمها ومؤسساتها السياسية والى مبدأ الانتخاب نفسه الذي تقوم عليه بقدر ما أساءت ظاهرة دونالد ترامب.

ولا يقتصر الأمر على النطاق الأميركي بل ينسحب على العالم بأسره حيث عزّز انتخابه في الدولة الأكثر تأثيراً ونفوذاً موجة صعود ليمين متطرّف ولخطاب عنصرية وكراهية، يمتدّ من الهند الى إسرائيل، ومن هنغاريا الى البرازيل.

وإذا كان انتخاب ترامب في أحد جوانبه ردّة فعل من بعض الشرائح الاجتماعية الأميركية البيضاء على سنوات حكم باراك أوباما وما مثّلته من تهديد لنهاية "التفوّق العرقي الأبيض"، بتسهيل من النظام الانتخابي من جهة ومن تراجع المشاركة في الاقتراع في أوساط التقدّميين البيض والملوّنين لصالح منافسته هيلاري كلينتون من جهة ثانية، فإن في التوقّف عند بعض سمات شخصية ترامب وخصائص خطابه وسلوك مناصريه السياسيَّين ما يشي بقضايا قيمية وثقافية تتخطّى مدلولات فعل انتخابه وحده.

Saturday, September 26, 2020

انفجار بيروت بوصفِه احتضار بلدٍ نهشته سلطاته وماتت فلسفة حُكمه

ليس بلا دلالات أن يتزامن انفجار بيروت مع انهيار لبنان الاقتصادي وتصدّع مجتمعه وانحدار حكّامه الى قعر غير مسبوق في تاريخه.

فالانفجار الناجم عن سنين من الفساد والإهمال والبحث عن صفقات أو عن توظيف عسكري لمادة نترات الأمونيوم المخزّنة في عنبر في مرفأ بيروت، في قلب العاصمة اللبنانية، بدا مآل ما تُفرزه إدارة طبقة سياسية ميليشياوية للشأن العام في بلد جرى تناهبه من داخل النظام الطائفي وشبكاته، على نحو أدّى الى تهتّك مؤسساته جميعها وإفلاسها وإفقار ناسه وحجز ما تبقىّ من أموال مواطنيه في المصارف الخاصة الشريكة في سياسات استدانةٍ وتوزيع مغانم وإنفاقٍ بلا وازع أو طائل.

والانفجار الفظيع هو أيضاً، مثله مثل مغارة كهرباء لبنان التي امتصّت على مدى ربع قرن أكثر من ثلاثين مليار دولار وظلّت مقطوعة عن الناس، ومثل قضية النفايات التي لم يتفّق أركان الحكم على تفاصيل المحاصصةِ إدارةً لجمعها فتُركت لتُرمى في البحر أو تُطمر في التربة، نتاج ترنّح فلسفة حكمٍ لم يعد من إمكانية حياة في ظلّها. 

Friday, September 11, 2020

ما بعد انفجار مرفأ بيروت: أزمة لبنانية مفتوحة ورهانٌ فرنسيّ على تعزيز دورٍ شرق متوسّطي

نُشرت هذه الورقة مؤخّراً في "مركز الجزيرة للدراسات"، علماً أنها أُعدّت في 20 آب/أغسطس 2020

ملخّص تنفيذي

دمّر انفجار ضخم مرفأ بيروت وبعض الأحياء والمرافق المحيطة به، وتسبّب بمقتل وجرح الآلاف وتهجير عشرات الآلاف الآخرين. ودفع الانفجار، الذي حمّل أكثر اللبنانيين سلطات بلدهم المسؤولية عن وقوعه بسبب الفساد والإهمال، حكومة حسان دياب الى الاستقالة، في لحظة استعادة الانتفاضة الشعبية أنفاسها وعودة المظاهرات والاعتصامات الى الشوارع، وفي لحظة اندفاع الديبلوماسية الفرنسية للعب دور تريده باريس إنقاذياً وراعياً لتفاهمات وإصلاحات تتخطّى لبنان نحو عدد من الدول الداعمة لقواه المتخاصمة، ونحو تكريس حضور فاعل لها في شرق البحر المتوسّط.

غير أن الدور الفرنسي قد لا ينجح في إنتاج سلطة مقبولة داخل لبنان وخارجه، نتيجة قناعة ترسّخت داخلياً أن لا إنقاذ ممكناً في ظل الطبقة السياسية الحاكمة، ونتيجة حسابات أطراف خارجية فاعلة تُؤْثِر المحافظة على ستاتيكو محلّي وإقليمي بانتظار جلاء الموقف في واشنطن بعد الانتخابات الرئاسية في تشرين الثاني/نوفمبر 2020.

بذلك، تبدو الساحة اللبنانية مقبلة على استمرار في الأزمات السياسية والمالية والاقتصادية، ولو مع دعم مشروط تحشده باريس لتقليص الخسائر ومحاولة إيجاد تفاهمات بين حزب الله وبعض خصومه المحليين يمكّنها من التحوّل مرجعاً للشؤون اللبنانية وعرّاباً للاتصالات الإقليمية حولها.

Sunday, September 6, 2020

حول المبادرة الفرنسية لبنانياً والتباساتها

أثارت زيارة الرئيس الفرنسي الثانية الى بيروت ولقاءاته وتصريحاته خلالها الكثير من التعليقات والنقاشات اللبنانية، التي اعتبرت بمعظمها أن إيمانويل ماكرون عاد وأمدّ الطبقة السياسية بجرعة حياة، وأنه خفّف من مفاعيل الحصار المضروب على حزب الله بموازاة تواصله مع طهران التي يسعى لتقليص التوتّر بينها وبين واشنطن.
وقبل الخوض في تقييم المقولات المذكورة، يفيد الحديث عن المقاربة الفرنسية للمسألة اللبنانية، وارتباطها بحسابات سياسية تتخطى لبنان الى محيطه المباشر.

Sunday, August 23, 2020

عن المحكمة الدولية الخاصة بلبنان وفرصة العدالة الضائعة

ليس بعيداً من الذكرى السابعة للمذبحة الكيماوية التي نفّذها نظام بشار الأسد في غوطة دمشق في 21 آب/أغسطس 2013 وذهب ضحيّتها قرابة ألف وخمس مئة شخص، وظلّت كباقي جرائم النظام بلا عقاب حتى الآن، أصدرت المحكمة الدولية الخاصة بلبنان قبل أيام قرارها في جريمة اغتيال رفيق الحريري وواحد وعشرين مواطناً في بيروت في 14 شباط/فبراير 2005.

Sunday, August 9, 2020

عن بيروت التي تكثّفت فيها الأحداث والأوجاع وصنعت فرادتها

لا معنى للحديث عن مدينةٍ من دون الحديث عن العيش فيها وعن حركتها وتبدّل أحوالها وعن الحرية والحب والخوف والتنقّل والولادة والموت فيها. ولا معنى للحديث عن مدينة دون تذكّر ضجيجها وروائحها وألوانها ونور شمسها وزخّات المطر في شوارعها. 

والأهم ربما، لا معنى لهكذا حديث إن جاء خالياً من ذكر صُحفها ومقاهيها وحاناتها وجامعاتها وأسواقها وباعتها الجوّالين وعمّال البناء والنظافة والحمّالين الحاضرين دوماً في زواياها.

فكيف إذا كانت المدينة المعنية بالحديث هي بيروت، بناسها – لبنانيين وأجانب ولاجئين سوريين وفلسطينيين وسودانيين – وبتاريخها الحديث الذي نشأنا في ثنايا أحداثه وتحوّلاته الصاخبة! وكيف إذا كانت عاصمة لبلد مرّ عليه في نصف قرن ما لم يمرّ على أي بلد آخر، كثافةً وقسوة ودموعاً أو بهاءً وغنىً وفرحا.

Saturday, July 11, 2020

لبنان الذي مات وبقيَ ناسُه

ثمة بلد صغير قضى نحبه منذ أيّام. بلد تعرّض خلال نصف قرن من الزمن - هو عمر نصف سكّانه - لِما لا طاقة لقارةٍ بأكملها على احتماله: حروب أهلية طاحنة، واجتياحات أجنبية واحتلالان طويلان، ودمار وتهجير وهجرة واغتيالات وانهيارات اقتصادٍ وعُملة، وسطوة نُخبٍ سياسية ومالية من أسوأ ما قد يُبتلى به مجتمع في العالم.
قاوم معظم ناس البلد الموتَ كثيراً قبل ذلك. وعبّروا عن مقاوماتهم بطرق مختلفة. بعضها شجاع كريم، وبعضها مُتحايل ومراوغ، وبعضها الآخر مكتفٍ بعدم تصديق احتمالات الموت نفسه.
غير أن الموت حصل في النهاية ومحا الفوارق بين مقاوميه ورواياتهم، وأطاح بمخيّلاتهم وادّعاءاتهم. فما الذي يبقى لهم اليومَ بعد موت بلدهم كما عرفوه؟

Sunday, June 14, 2020

عن المسألة السنية الشيعية في صراعات اليوم السياسية


يعتمد كثرٌ من الكتّاب العرب والغربيين مقاربةً للمسألة السنّية الشيعية تعدّها سبباً شبه وافٍ ومكتفٍ بذاته لشرح معظم الصراعات والانقسامات في المشرق العربي والخليج. في المقابل، يتجاهل المسألة إياها كتّاب آخرون وينفون كل قدرة لها على التأثير ولعب أدوار في رسم التحالفات وخطوط التماس.
والحقّ أن ثمة اختزالاً وتبسيطاً في الحالتين. فلا القسمة السنّية الشيعية، بما تعنيه من خلاف حول أحقّية وراثة نبيّ الإسلام في القرن السابع ومن تأويلات متباينة لروايات وأحاديث وسير وعلاقات تاريخية، تفسّر الصراعات المحتدمة اليوم في العراق وسوريا ولبنان واليمن. ولا إنكار حضورها في المجتمعات وفي مسار تكوين الهويّات، كما في الخطابات التعبوية وفي المشاريع السياسية الهادفة الى السيطرة على بلاد أو التمدّد في مناطق، يُفيد في سياق البحث عن خصائص بعض المواجهات والمعسكرات المنخرطة فيها.

Tuesday, June 9, 2020

الجسدُ المُعنَّف لِسواد لَونِه إذ ينتفضُ بقبضته أو يجثو على ركبتِه

تُذكّر التظاهرات والاحتجاجات المستمرّة في الولايات المتحدة الأميركية منذ أسبوعين، وإيماءات أجساد المشاركين والمشارِكات فيها رفضاً لاستمرار عناصرَ من الشرطة في قتل المواطنين السود، بتاريخٍ من الرمزيّات ومشهديّات التحدّي التي صنعها رياضيون في وجه العنف والتمييز العرقي على مدى قرنٍ ونصفٍ من الزمن.

Sunday, May 31, 2020

حزب الله الذي لا حلّ معه ولا حلّ من دونه

مرّت قبل أيام الذكرى العشرون لتحرير جنوب لبنان من الاحتلال الإسرائيلي. وبدا مرورها باهتاً، رغم محاولات حزب الله أحياءها احتفالياً والتذكير بفضله في تحقّق شروطها. وبُهتانها لم يتأتّ من أوضاع البلد الراهنة وما فيها من أزمات اقتصادية ومالية غير مسبوقة في حدّتها، أو من الحجر الذي تفرضه جائحة كورونا، أو من التأزّم السياسي والمحاولات الشعبية لاستئناف التجمّع والتظاهر استكمالاً لانتفاضة 17 تشرين/أكتوبر 2019. بل هو تأتّى بشكل خاص من قناعة ترسّخت مع الوقت عند قسم كبير من اللبنانيين مفادها أن إنجاز التحرير لم يُثمر إعادة بناءٍ لدولة، وأنه وُضع في مواجهة إنجازات أُخرى من موقع النقيض فجرى تسليعه سياسياً ليُجيَّر لهذا الطرف أو ضد ذاك وفق أجندة حزب الله وتحالفاته أو خصوماته الإقليمية والمحلّية.

Sunday, May 17, 2020

تراجيديا اللبنانيين بين حكومة انهيارٍ وشروط صندوق نقدٍ

أقرّت الحكومة اللبنانية مؤخّراً مبدأ التوجّه الى صندوق النقد الدولي وشكّلت وفداً لمفاوضة الأخير واضعة اللبنانيين أمام خيارين: خيار الانهيار التام الذي أوصلت القوى السياسية – وفي مقدّمها تلك المشاركة في الحكومة نفسها - البلد إليه، وخيار اللجوء الى الصندوق والقبول بشروطه القاسية التي لن تحدّ من تدهور الأحوال المعيشية وتَفاقم المظالم الاجتماعية، لكنّها قد تسمح بإعادة هيكلة الاقتصاد وتقليص العجز في الموازنة وإدخال أموال من دائنين توقف المسار الإفلاسي للدولة.

Sunday, May 3, 2020

الانتفاضة الشعبية اللبنانية في انبعاثها الطرابلسي ومشقّاتها الوطنية


رغم الحجر الصحي المفروض في لبنان بسبب "كورونا"، عاد المتظاهرون الى الشوارع مستأنفين انتفاضتهم بعد أسابيع من تجميدها، في ظرفٍ تزايدت فيه الصعوبات والتعقيدات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
فالليرة واصلت تراجعها أمام العملات الأجنبية ومعها القدرة الشرائية لأكثرية اللبنانيين، والمصارف استمرّت في سياسة إذلال المودعين المحجوزة أموالهم لديها، والعديد من المؤسسات والشركات سرّحت عمّالاً وموظّفين، توسّعت بهم دائرة البطالة والفقر. كل هذا وسط تراشقٍ بالاتهامات بين المسؤولين، سياسيّين وماليّين، واستنفار وسائل إعلامية للدفاع عن بعضهم في مواجهة البعض الآخر.

Sunday, April 19, 2020

عن الرحابنة وفيروز في ذكرى الحرب اللبنانية وصَلاة كورونا


تسود في بعض الأوساط الثقافية اللبنانية، الشابة عمراً أو المتحدّرة من أصول يسارية، مقولات من نمط أن لبنان "كذبة"، وأن الكذبة تلك ساهم الرحابنة وفيروز في صياغتها، أو أنها بالأحرى صاغت جوانب عديدة ممّا قدّموه فنّياً على مدى عقدين من الزمن.
ويُنسب بهذا المعنى لمسرحيّاتٍ وأغانٍ رافقت جيلَين على الأقل من اللبنانيين بناؤها لأوهام وركونها الى المبالغات الشعرية، بأسلوب درامي يجمع بين المخيّلة السياسية القرويّة الفقيرة والخطاب الوطنيّ المجرّد من أي علاقة بإشكاليات الاجتماع السياسي وهشاشة توازناته وواقع الصراعات فيه. 

Sunday, April 5, 2020

في تحدّي أن نعود الى سنّ الرشد بعد كورونا

لا يحتاج العالَمُ الى فيروس كورونا لِتَظهر المثالب والاختلالات فيه، ولا لأزمة مباغتة تصيب المليارات من ناسِه لتَذَكُّر أن التطوّر الرأسمالي والعلمي المذهل ترافق في العقود الأخيرة مع تدمير متسارعٍ للبيئة، وتعميق غير مسبوق للهوّة الفاصلة بين البشر في مجتمعاتٍ وقارات وداخل كلّ منها، وتراجعٍ في أكثر الدول تقدّماً عن خدماتٍ عامةٍ كانت قد سمحت في الحقبة التي سبقت بمقدارٍ من "العدالة الاجتماعية" النسبية فيها. وطبعاً لا يحتاج هذا العالَم لفيروس كورونا كي تبان سطوة خطاب إيديولوجي فيه يُؤْثِر إزالة الحدود الترابية أمام التوسّع الاقتصادي والتسليع (مع بعض الضوابط)، مقابل تشييد الجدران على الحدود إياها لضبط المرور البشري وتقليصه وتحديد شروطه.

Tuesday, March 31, 2020

الحداثة إذ تضربها جائحةٌ فتصيب مبدأ التوقّع فيها واليقين

قد يكون أبرز ما وسم الحداثة في قرنها المنصرم هو قدرة الصانعين لها والمنخرطين في مجتمعاتها ونُظُمها على توقّع ما سيجري لهم. يسري هذا على الاقتصاد وحساب مستويات نموّه وتقدير عائداته وتوظيفاته ومعدّلات التشغيل والبطالة المقبل عليها سنوياً. يسري على السياسة وتحالفاتها وانتخاباتها التي تأتي المفاجآت فيها كلّ فترة استثناءات مثيرة تعدّل من "رتابة المتوقَّع". ويسري على القوانين وسنّها وصراع النقابات وأصحاب المصالح وكتل الضغط حولها وعليها. ويسري، وهذا الأهمّ ربما، على حياة الناس اليومية، إذ يغدو المُتوقَّع محرّك سلوكهم وضامن خدماتهم ومُحفّز تنقّلاتهم ومواعيدهم وأنشطتهم وسفرهم وثقتهم بمعظم مسارات أمورهم. يُديرون الوقت على أساسه ويقيسون المسافات وفق برامج متوقّعة (ومضمونة) لوسائل النقل الخاص والعام. لا مباغتات في ما يخصّ الخدمات الأساسية التي يحصلون عليها مقابل ما يسدّدونه من مترتّبات وضرائب متوقّعة بدورها. أكثر من ذلك، يختارون ألبستهم وفق نشرات الطقس، ويُقارنون درجات الحرارة القائمة حيث يمكثون بما ستكون عليه في مكامن زياراتهم المقبلة. ولعلّ التذكير بأن نشرات الطقس كانت من عناصر التئام هويّاتهم الوطنية، إذ سمح تكرار ذكر مدنهم إياها يومياً بتكريس خرائط أليفة في أذهانهم وانتماءات ترابية، يُفيد لربط هذه النشرات وموضوعها وخصائص أمكنتها بما سيغدو إدارةً للمتوقَّع في حوليّاتهم وتوزيعاً لوظائف اقتصادية واختصاصات ترفيهية على المدن والمناطق. فهذه صيفية وتلك شتوية، أو هذه للصناعات الثقيلة وتلك للمختبرات الصيدلية أو للتكنولوجيا الرقمية أو للاختصاصات الجامعية.

Monday, March 9, 2020

فيروس كورونا وعوارض الأنظمة السياسية والاقتصادية


ليس أكثر كشفاً اليوم للعديد من خصائص الأنظمة السياسية والاقتصادية حول العالم من فيروس كورونا الذي تحوّل في أقلّ من ثلاثة أشهر الى كابوس لدول ومجتمعات وشركات كبرى وصغرى، ولمؤسسات طبية وتعليمية ورياضية وتجارية في معظم أرجاء الأرض. 
قد يُقال إن في تناول أخبار انتشاره وتعميم الحكي عنه والهلع منه مبالغة إعلامية وسياسية كبرى، في حين أن ضحاياه ما زالوا أقلّ من الضحايا السنويين للكثير من الأمراض التي صرنا نعدّها "بسيطة".
وقد يقال أيضاً إنه صار عاملاً يحوّل الأنظار عن مشاكل متفاقمة في بلدان عدة، وفي ذلك ما يُفيد نخباً سياسية حاكمة تجد فيه ذريعة لتخفّف عنها مسؤوليات إخفاقات وتعثّرات وأزماتٍ تَراجعَ البحث فيها في ظلّ تقدّمه وتوسّعه والخشية من عدواه.
وفي القولَين على الأرجح بعض الصواب. إلا أن ذلك لا يغيّر من كونه تحوّل في ظرف أسابيع الى التحدّي الأبرز الذي يواجه منظومات صحية وإنتاجية، ويفرض تبديلات في سلوكيات مئات ملايين الأفراد في القارات الخمس. 
على أن الأبلغ دلالة في ما تسبّب به الفيروس من إجراءات أو أحدثه من خسائر اقتصادية أو أطلقه من تكهّنات حول تداعياته وأعداد ضحاياه وفاعلية أشكال التصدي له يرتبط بشكل خاص بتظهيره الاختلافات بين الثقافات السياسية والحقوقية والاقتصادية حول العالم.

عن الاتفاق التركي الروسي حول إدلب، سوريا - مداخلة على قناة الجزيرة

Saturday, February 22, 2020

ماذا نكتب عن إدلب؟

يخيّم الموت على إدلب منذ أشهر طويلة. يقذفه على الناس وحوشٌ في براميل وصواريخ وحممٍ نارية. ينهمر من الغيم على بيوتٍ ومدارس ومستشفيات. يقطّع أوصال أطفال ومسعفين، ويصيب ملاعب ومخابز ومخابئ، ويحوّل مدناً وبلدات الى ركام ودخان. يغدر الموت في إدلب بالناس كل يوم. يسابق خبزهم في الصباح الباكر، ثم يأتيهم في الظهيرة ويحوم فوق مخادعهم إن ناموا. يطوي بثقله بيوتاً ويسحق أهلها وذكرياتهم تحت حطامها المهول. يطرد الموت في إدلب الأحياء من ديارهم، من أعمارهم وبقايا آمالهم. يُحيل وجوههم الى خرائط للدموع والمآسي، ويملأ طرقات يوميّاتهم السابقة بأرتال من السيارات والآليات المحمّلة بظلالهم وبعض حاجيّاتهم والكثير من الغبار

Monday, February 10, 2020

سوريا والعراق وليبيا إذ اجتاحتها دول وميليشيات ومرتزقة

ليس من قبيل المصادفة أن تكون سوريا والعراق وليبيا اليومَ البلدان العربية الثلاثة الأكثر عرضة للعنف وتحلّل الدولة وتذرّر المجتمع وانتهاك السيادة الوطنية وتعدّد الاحتلالات الأجنبية. ذلك أننا إذا ما استثنينا اليمن الذي يعاني مثلها لأسباب تخصّ تركيبته الداخلية وانكشافه على جواره الجغرافي المباشر والنزاع الإقليمي على النفوذ فيه، لوجدنا أنها تعيش وحدها صراعات ضارية تخرج إدارتها وشعاراتها عن حدود كلّ منها التُرابية، تماماً كما كانت تتخطّى شعارات حكّامها المطلَقين وسياساتهم الحدود إياها. المشترك بين حالات سوريا والعراق وليبيا بهذا المعنى، والمختلِف عن حالة اليمن، هو أثر إيديولوجيا الحكم الآفل في راهن كلّ منها، لجهة خطابه المدّعيِ مشاريع قومية، وطبيعته الشموليّة وتحويله الدولة الى مؤسسة قمعية كبرى هدفها تأبيد سلطة الحاكمين وعائلاتهم. أما الاقتصاد والإدارة والخدمات والديبلوماسية وسائر شؤون الدول عادة، فسُيّرت على هامش ما ورد ولخدمته حصراً، وتُرك لها أحياناً، وفق الظروف والمناخات، إبراز جدّيتها وفاعليّتها (كما في العراق في السبعينات) أو التراجع الى الحدّ الأدنى

Sunday, January 26, 2020

للثورة المضادة "حكومة حرب" في لبنان


في سياق الثورة المضادة التي يقودها أطراف السلطة اللبنانية، تشكّلت في بيروت منذ أيام حكومة يمكن اعتبارها، رغم هامشية معظم أفرادها ورئيسهم (كأشخاص)، حكومة حرب ضد الانتفاضة. ذلك أن التحالف الذي أفضى الى تشكيلها إنما أرسل عبرها عدّة رسائل داخلية وخارجية.