Sunday, January 29, 2023

إتّفاق الطائف الذي ابتلعته موازين القوى المتبدّلة

مثّل نصّ اتفاق الطائف، الذي رعته دولٌ عربية بموافقة أميركية في لحظة تحوّلات كبرى في العالم، تطويراً أو توسيعاً لنصوصٍ لبنانية عديدة سبقته (الوثيقة الدستورية العام 1976 والاتفاق الثلاثي العام 1985)، أجهض السير بها وقت إنجازها رفضٌ محلّي حادّ أو اعتراض إقليمي حاسم في مراحل لم تكن فيها أوان الحلول السياسية قد نضجت داخلياً وخارجياً.

والواقع أن العام 1989، عام توقيع الطائف، وعلى العكس من التواريخ السابقة، شهد تفاهماً سورياً سعودياً (ومصرياً وجزائرياً) لإنهاء الحرب في لبنان، رضيت عنه الولايات المتحدة الباحثة عن تموضع جديد في مناطق العالم المختلفة بموازاة الانهيار السوفياتي، وانخرطت في التفاهم المذكور معظم القوى السياسية والطائفية اللبنانية باستثناء واحدةٍ مسيحية مثّل عصبيّتها قائد الجيش آنذاك ميشال عون المدعوم عراقياً والمُتفَهَّم موقفه فرنسياً. أدّى الأمر بعد أكثر من عامٍ من توقيع الاتفاق في مدينة الطائف السعودية وإقراره في المجلس النيابي اللبناني (الممدّد له تكراراً منذ العام 1972)، وإثر صراعات دموية مسيحية على صلة بالاتفاق وبتمثيل المسيحيين من ناحية، وتطوّراتٍ إقليمية ودولية جسّدتها الحرب الأميركية على العراق بمشاركة سورية وسعودية ومصرية وأوروبية لتحرير الكويت من ناحية ثانية، الى فرضه واجتياح الجيش السوري للمناطق التي كان عون يُعلن عصيانه عليه منها.

هكذا، استُهل العقد الأخير من القرن العشرين في لبنان بانتهاء الحرب وبصيغة حُكم لم تتعدّل فلسفتها، بل حصص المشاركة الطائفية فيها، وحصل الرئيس السوري حافظ الأسد على دور الوصاية السياسية والأمنية لبنانياً في حقبة قيل إنها انتقالية يتخلّلها تطبيق الاتفاق وتنظيم انتخابات برلمانية وإطلاق ورشة إعمار ومواكبة بدء مفاوضات السلام العربية الإسرائيلية.

طارق بيطار أو البحث عن القضاء الضائع

يثير شخص القاضي اللبناني طارق بيطار وتمسّكه بمهمّة التحقيق في انفجار نيترات الأمونيوم في مرفأ بيروت، الذي أودى في 4 أغسطس 2020 بحياةِ أكثر من مئتي شخص وأصاب عشرات الألوف في أجسادهم وممتلكاتهم، الكثير من المواقف والأسئلة والانفعالات والتجاذبات في أوساط القوى السياسية وداخل الجسم القضائي ولدى الجمهور الواسع في لبنان. 

ذلك أن الرجل الذي استلم ملفّ التحقيق بعد ستة أشهر من وقوع الانفجار بدا منذ تكليفه بالمهمة، رغم فترة انقطاع لاحقة نتيجة محاولات السلطة الضغط عليه وكفّ يده، مثابراً ومصرّاً على التقدّم في عمله ورافضاً للابتزاز وللتهديدات التي تعرّض لها مباشرة أو عبر التسريبات الإعلامية. أي أنه بدا نقيضاً في مسلكه وجدّيته لقضاة تولّوا قبله تحقيقات في قضايا حسّاسة وارتضوا بسقف ما هو "مسموح" لهم به في بلدِ حصانة المرتكبين وفظاعة فجورهم. وهذا ما جعل الاحترام والتأييد له يزدادان عند ذوي الضحايا والمتضرّرين من واحد من أضخم الانفجارات غير النووية في التاريخ، كما عند المعارضين للسلطة القائمة بأطيافهم المختلفة، الذين رأوا في دفاعه عن استقلاليّته وإصراره على صلاحيات القضاء ما يُبشّر بالقدرة يوماً على الكشف عن ملابسات جريمةٍ تُجسّد أسبابُها ومعالمها وآثارُها أصدق تجسيدٍ أخلاقَ النظام وقواه الحاكمة، لجهة الفساد والإهمال والاستهتار والتواطؤ الجرمي والثقة بالإفلات من العقاب.

Sunday, January 15, 2023

من برلسكوني الى ترامب فبولسونارو: الشعبوية في مواجهة المؤسسات الديمقراطية المأزومة

غالباً ما يُعدّ دونالد ترامب أوّل رئيس شعبويّ مُنتخبٍ في دولة غربية بعد الحرب العالمية الثانية، وصل الى الحُكم العام 2017 من دون خبرة سياسية أو تدرُّجٍ في أروقة السلطة، ومن دون ثقافة ديبلوماسية، واعتمد مسلكاً في ممارسة مسؤوليّاته لا خشية فيه من قول كلام سوقيّ وعنصريّ ولا من إيراد معلوماتٍ مغلوطةٍ وإطلاق وعودٍ لا إمكانية لتحقيقها.

وغالباً ما يُشار أيضاً الى كونه جسّد في مسيرته غير التقليدية التقاطع المثير بين النجاح في الأعمال والفساد والتهرّب الضريبي وكراهية الدولة المركزية والنخب والمؤسسات الوطنية والدولية وحُسن التعامل مع الكاميرا ثم مع وسائل التواصل الاجتماعي لمخاطبة قواعد اجتماعية تُماثله في كراهيته وتنبهِر بجمعه الثروات وتحويلها الى سطوة وسلطة توازي سلطته الرئاسية الطارئة.

ودونالد ترامب نجح فوق ذلك، رغم فشله في الفوز ثانيةً بالانتخابات الرئاسية الأميركية العام 2021، في تكريس الترامبية في المشهد السياسي الأميركي وإبقائها عنصراً مؤثّراً في اختيار الحزب الجمهوري لممثّليه، وفي تشكيل الأكثريات والأقليّات في السلطة التشريعية بشقّيها (مجلس النواب ومجلس الشيوخ) كما في المجالس المحلية والجهوية. الأخطر ربّما أنه نجح في وضع "قِيَمه" (التي تعكُس "ُقيَم" قسمٍ كبير من الأميركيين اليمينيين والمحافظين وغير المنتمين لحزبٍ، المعتنقين على الدوام نظريات مؤامرة أو المتمسّكين بـ"حرّيات" فردية تناقض أحياناً مبادئ التعاقد بين المجتمع والدولة أو تنفرُ من التعدّد والتنوّع والتسامح وترى فيها "قيَماً شيوعية") في قلب السجالات والنقاشات العامة، بما حرّر غرائز أو مقولات كان يحولُ "الصواب السياسي" دون التعبير العلني أو السافر عنها سابقاً.

Thursday, January 5, 2023

ترسيم الحدود اللبنانية-الاسرائيلية: براغماتية حزب الله تجاه الخارج وصرامته تجاه الداخل

وقّع لبنان رسمياً، في 27 أكتوبر 2022 إتفاق ترسيم حدود بحرية مع إسرائيل، برعاية ووساطة أميركية. وإذا كان الاتفاق لم ينهِ الجدال حول قضية الترسيم ككلّ، لتأكيدٍ على حصره بالحقول الغازية من ناحية، ولغياب الترسيم الحدودي البرّي الذي يستكمل الشق البحري من ناحية ثانية، إلّا أنه أسّس لمرحلة جديدة على الحدود اللبنانية الجنوبية. ذلك أن حزب الله باركه بوصفه مكسباً وطنياً للبنانيّين تمّ بفضل "المقاومة"، والحكومة الإسرائيلية السابقة اعتبرته ربحاً لتل أبيب ومصالحها، والإدارة الأميركية ومن خلفها السلطات الفرنسية عدّته منطلقاً للسلام والاستقرار ولازدهار اقتصاد البلدين المعنيّين (وأسواق الطاقة). وكلّ هذا يجعله اتفاقاً يتخطّى في دلالاته وتداعياته السياسية الشأن التقني المرتبط بحقول الغاز والحق في استثمارها شرق المتوسّط.

النص التالي قراءة في المعطيات والملابسات المحيطة بالاتفاق وفي بعض مؤدّياتها، وفي مواقف حزب الله وسائر الأطراف المرتبطة بها.