يكثر التساؤل كلّ فترةٍ في لبنان عن الأسباب التي تُتيح لمسؤولين سياسيّين استثنائيّي الرداءة والفساد البقاء في السلطة والتجديد لحُكمهم ولإدارتهم شؤونَ الدولة، في وقت يملك المجتمع مقداراً استثنائياً من الكفاءة والدينامية الثقافية والسياسية. ويصحّ التساؤل نفسه في أكثر البلدان العربية بالطبع، غير أنه في لبنان يملك فائض مقوّماتٍ بالنظر الى خصائص الديموغرافيا وانتشارها ومستوى التعليم وتاريخ الحريّات العامة والخاصة وقِدم الانفتاح على العالم.
على أن هذا التساؤل الوجيه الذي يمكن لاحقاً تفصيل الإجابة عنه يُسقط من حسابه ما لا يقلّ أهميةً أحياناً من عناصر الإجابة ذاتها. ذلك أن حسبان الهوّة لا يأخذ بالاعتبار أن المجتمع اللبناني تكيّف لفترة طويلة مع ضعف حضور الدولة في يوميّاته، وأوجد آليات تسيير لأموره لم يكن يُعتدّ بمؤسسات الدولة لضمان استمرارها، مما جعل شرائح واسعة منه قليلة الاكتراث بالمسؤولين السياسيين وبمشاريعهم وأدائهم و"دولتهم". كما أن لفئاتٍ لبنانية موسومة بالنجاح والقدرة على الابتكار والتنظيم موقفاً شديد السلبية من السياسة ومن الفعل السياسي، وجد ما يعزّز مبرّراته في مرحلة ما بعد الحرب و"نُخبها" الميليشياوية المرتبطة بالهيمنة السورية، فاكتفى بالنشاطية الاقتصادية أو الثقافية المستقلّة عن الشأن السياسي العام، وخلق مساحات بدت عوالم موازية غير آبهةٍ بعالم السياسة والدولة ورقاعة المسؤولين.