دخلت
الانتفاضة الشعبية اللبنانية شهرها الثاني، وتواصلت تحرّكات المنخرطين فيها في
مختلف المناطق والقطاعات، وِفق إيقاع يتقدّم حيناً ويخفت حيناً آخر وتتنوّع دورياً
أساليبه الاحتجاجية ومبادراته وتعبيره عن مواقفه السياسية. فبالإضافة الى
التجمّعات في الساحات المدينية الكبرى والتظاهرات وقطع بعض الطرقات، تنظّم
المجموعات المنخرطة في الانتفاضة اعتصامات أمام مقار حكومية ومؤسسات عامة وشركات
خاصة ومصارف ومواقع مشاريع منجزة أو قيد الإنجاز للتذكير بانتهاكها حقوق الناس
وفسادها واعتدائها على الأملاك العامة ومراكمة أصحابها الثروات وتهديدها البيئة
وصحة المواطنين والمواطنات، وللتأكيد على العزم على محاسبتها وإنهاء حصانة المسؤولين
عن تجاوزاتها وجرائمها المالية.
وتشهد
الانتفاضة أيضاً مبادرات طلابية ومهنية تهدف الى إعادة تأسيس نقابات وإيجاد آليات
تنسيق بين الهيئات القطاعية، بالتوازي مع استمرار إقامة اللقاءات والنقاشات في بعض
خيم الاعتصامات في بيروت وطرابلس وصيدا وسواها من المدن. وتلعب وسائل التواصل
الاجتماعي دوراً كبيراً في تغطية ما يجري والإعلان عن فعاليّات الانتفاضة
المختلفة، كما تعبّر الهتافات في التظاهرات ومثلها الشعارات على الجدران
والغرافيتي والشتائم المكالة للمسؤولين السياسيين وحلفائهم في القطاعات المالية
والإعلامية عن جذرية مقاربات الانتفاضة للشأن العام اللبناني، وعن ثورية التغيير
المنشود. ثورية تخوض فيها أيضاً حركة نسوية تتحوّل مقولاتها الى برنامج يتخطّى كل
ما عرفه لبنان حتى الآن من مطالب "مساواة" بين النساء والرجال.
بهذا، تُبرز
الانتفاضة يوماً بعد يوم عمق الهوّة الفاصلة بين مجتمعها المتحرّك والخلّاق وجيله الجديد
المتحرّر قسمٌ كبير منه من الطائفية وإرثها وثقافتها وقيود مؤسساتها، وبين النخبة
السياسية الحاكمة وحلفائها، البليدين والرتيبين والمعدومي الخيال والثقافة والقدرة
على بناء خطاب يتخطّى حديث المؤامرات والتخوين وتحميل "الآخرين" مسؤولية
الفساد والهدر والانحدار السياسي والاقتصادي.
السلطة
المفكّكة، السلطة الصلبة
على أن
الهوّة المذكورة هذه، التي يستحيل ردمها، تعني أن المواجهة القائمة مرشّحة
للاستمرار طويلاً، مثلها مثل الأزمة السياسية والمالية والاقتصادية المفتوحة. وإذا
كانت الانتفاضة قد حقّقت حتى الآن ثلاثة إنجازات كبرى تتمثّل في إسقاط الحكومة،
وإرباك التحالف القسري والمصلحي بين قواها، والسير ببناء ثقافة سياسية وتضامنية
مواطنية جديدة، إلا أنها تقف اليوم أمام تحدّيات معقّدة في ما خصّ
قدرتها على التعامل مع متغيّرات وتوازنات جديدة، ومع مواجهة مقبلةٍ على تصعيد كبير
مع البنية الصلبة للسلطة القائمة، أي تحالف حزب الله والتيار العوني، وما يمثّله
هذا التحالف عسكرياً وأمنياً من مؤسسات وأجهزة (رسمية وغير رسمية) من جهة، ومن
جمهور حزب إلهي متماسكٍ (رغم تباينات كثيرة بين مكوّناته) من جهة ثانية.
ويمكن
التوقّف هنا عند ثلاثة تحدّيات كبرى تواجهها الانتفاضة (بما هي تحديداً قوى
التغيير المستقلة عن أحزاب السلطة وشبكاتها) غير المتماهية في مكوّناتها والشديدة
اللامركزية في إدارتها وتنسيقها، في كفاحها اليوم.
التحدّي
الأول يكمن في قدرتها على مرونة التعامل مع جماهير قوى سياسية انفكّت (لأسباب
قسرية) عن السلطة وبات حضور بعض شرائحها الشابة في الشارع ثابتاً وواضحاً ولَو
أنها لا ترفع شعارات خاصة حتى الآن. والجماهير المعنية هي تلك المرتبطة بالقوات
اللبنانية وتيار المستقبل بالدرجة الأولى، ثم بالحزب التقدمي الاشتراكي وببعض
المتناثرين عن سائر القوى السلطوية بالدرجة الثانية. ومرونة التعامل مع هذه
الجماهير لا تعني إعفاءً لأحزابها وزعمائها من مسؤوليّاتهم، ومعظمهم تعاقبوا على
السلطة منذ عقود ويتحمّلون مسؤولية كبيرة في ما آلت إليه الأمور إن بسبب التوجهات
الاقتصادية والمالية التي تبنّوها، أو بسبب انغماسهم في الفساد والهدر أو بسبب
تواطؤهم مع كل ذلك بحثاً عن نفوذ وزبائنية. المرونة هنا تعني التواصل مع الجماهير
المذكورة بما يجذب بعضاً منها الى شعارات الانتفاضة الأصلية ويحول دون استفراد
الباقين بمناطق أو مواقع كفاح ذات رمزيات عالية (بما فيها الرمزيات الطائفية)،
وبما يضغط على القوى التي يوالونها ليُبقيها قدر الإمكان مرتبكة في خياراتها
وأولوياتها.
التحدّي
الثاني يكمن في مدى قدرة الانتفاضة على الصمود في الشارع والاستمرار في التحرّكات
والمبادرات التي تنوّع "بنك أهدافها" وتحول دون الاعتماد على أساليب
يمكن للسلطة مع الوقت التعامل معها بالحصار أو بالشدّة لضربها، خاصة وأن ضغط حزب
الله ورئاسة الجمهورية على الجيش والقوى الأمنية سيتزايد لتقوم بقمع التجمّعات
وتعنيف ناشطيها الميدانيين. وهذا يتطلّب تنسيقاً أعلى بين مكوّناتها، وتفعيلاً
لدور الحقوقيين والصحفيين المناصرين لها للمشاركة في حمايتها، وتكثيفاً لبعض
أنشطتها داخل مؤسسات جامعية وساحات كبرى يصعب اقتحامها.
أما التحدّي
الثالث فهو تحدّي مواصلة الضغط على المصارف وعلى البنك المركزي (وعلى أي حكومة قد
تتشكّل) لمنع تهريب الأموال واستسهال خفض قيمة العملة الوطنية وللاستمرار في
التدخل لحمايتها وتمويل ذلك من الأرباح الكبيرة التي راكمتها المصارف الخاصة خلال
العقود الثلاثة الماضية، ريثما تتيح إصلاحات مالية واقتصادية جدية ومكافحة للهدر
والفساد في تثبيت الأوضاع وإقناع مستثمرين أو جهات دولية بدعم الاقتصاد اللبناني
في مرحلة انتقالية...
لقد
أثبتت الانتفاضة حتى الآن، بمبادرات الناشطين والناشطات فيها، قدرتها على ابتكار تحرّكات
وشعارات أربكت السلطة بمكوّناتها المستمرّة في "الحكم"، أو المنفضّة
مرحلياً عنها، أو المنتظرة ما قد يقوم من توازنات قوى جديدة (رئيس المجلس النيابي
وحركته "أمل" تحديداً). وأثبتت الانتفاضة أيضاً قدرتها على التماسك
والإبقاء على الأولويات المرفوعة وأبرزها تشكيل حكومة مستقلة مهمّتها الإنقاذ
المالي والاقتصادي والبدء بالإصلاحات السياسية تحضيراً لانتخابات نيابية تقام
لاحقاً، تليها انتخابات رئاسية. الشهر الثاني من عمرها سيكون امتحاناً متجدّداً
لهاتين القدرتين، ومرحلة جديدة ستتطلّب التعامل مع تحديات متعاظمة يملُك
اللبنانيون واللبنانيات الذي ثاروا بلا شك المزيد من القدرات لمواجهتها.
زياد ماجد
مقال منشور في الملحق الأسبوعي للقدس العربي