Sunday, November 15, 2020

سكاكين للمقبل من الأيام

كُتب الكثير حول الجريمتين اللتين استهدفتا مدرّس التاريخ صمويل باتي قرب مدرسته في مدينة كونفلان الفرنسية والمصلّيتين في كنيسةٍ والعامل فيها في مدينة نيس، جنوب البلاد.

النص هذا، الذي نُشر في موقع ميغافون، مساهمة إضافية في النقاش حول الحدثين، عبر تذكير بمسألتين أساسيّتين.

المسألة الأولى متّصلة بمجلة شارلي إبدو الساخرة وبرسومها التي فجّرت منذ سنوات غضباً في أوساط المسلمين في العالم، لتناولها نبيّ الإسلام ولنشرها تكراراً رسوماً عُدّت مسيئة إليه، والتي تعرّض العاملون فيها لمجزرة وحشية في العام 2015، كانت البداية لمسلسل اعتداءات وجرائم تستمرّ حتى اليوم.

ويُفيد القول هنا إن التجديف، أو السخرية من الأديان وهجاءها، حقّ منصوص عليه في القانون الفرنسي، وهو نتاج صراعات طويلة وحادة مع الكنيسة الكاثوليكية، لم يكتف فيها المشرّعون بإقصائها تدريجياً عن الحقل السياسي، أي عن الدولة، بل أرادوا أيضاً تهشيم سلطتها المعنوية على المجتمع. وقد شكّل الكاريكاتور واحداً من أدوات التهشيم هذا، عبر رسوم تقذّع غالباً رجال الدين، وتنال أحياناً من الثالوث المقدّس نفسه. وانسحب الأمر على الحاخامات وعلى وصايا موسى والديانة اليهودية لفترة طويلة، قبل أن تلجمه الرقابة الذاتية والمذنوبية الجماعية التي فرضت نفسها بعد الحرب العالمية الثانية، بسبب تعاون فرنسيّين كثر مع الاحتلال النازي ومشاركتهم في الفظائع المرتكبة بحق مواطنيهم اليهود. أما التعامل الكاريكاتوري مع الإسلام فنشأ متأخّراً ولم يشتهر كثيراً لأسباب عدّة منها أن هالة الأخير القدسية وسطوته وأثره في الحيّز العام لم تكن ذات شأن في أوروبا أو بالأحرى كانت الى الفولكلور والاختلاف "الإكزوتيكي" أقرب. غير أن الحضور المتزايد له وللمسلمين ثم للإسلاميين في فرنسا وضعه منذ عقود تحت المجهر. فحملت بعض الرسوم سخريةً منه تشبه السخرية من الديانتين التوحيديتين الأُخريين، ثم انزلقت الأمور بعد فترة نحو تشنيعٍ يربطه حصراً بالعنف والإرهاب والقتل العشوائي، قبل أن يتحوّل أمر التعامل الساخر المفترض معه في الكثير من الأحيان الى التعامل العنصري مع معتنقيه، أو بالأحرى معتنقاته المحجّبات اللواتي انصبّ معظم الكره عليهنّ لأسباب لم تعد ذات صلة بحقّ التجديف أو بالتضاحك على المعتقدات والأنبياء.

ولعلّ مجلة شارلي إبدو، التي بات انتقادها شبه محظور أو مُتجنَّباً في فرنسا منذ مقتلة صحافيّيها، كانت الأكثر سفاهةً في هذا الباب، وتشبّهت بِمنابر تصوّر المسلمين على نحو لا يختلف كثيراً عمّا كان يُصيب اليهود في ثلاثينات القرن الماضي وخلال الحرب الثانية من تنميطات ومن إحالات في الشكل الى القرود والأفاعي والجرذان، وفي المضمون الى السعي الدائم للكسب والتآمر واستغلال المال العام (بخلاً ومراكمة ثروات ونفوذ في الحالة اليهودية، وكذباً وتناسلاً للاستفادة من التقديمات الاجتماعية في الحالة المسلمة). والمفارقة هنا أن الغضب من المجلة وصولاً الى بربريّة الردّ عليها لم يكونا نتيجة استياء من كراهيةٍ عنصرية ظهرت في صفحاتها، بل من رسوم ساخرة يُتيحها القانون ولا تستهدف بشراً أحياء أو وقائع راهنة. وهذا يتطلّب في ذاته نقاشاً مستفيضاً (سيأتي النص على ذكر مفارقاته لاحقاً).


المسألة الثانية ربطاً بسابقتها تتعلّق بالإسلاموفوبيا المتصاعدة في فرنسا، التي بات التنافس على التعبير عنها بأشكال مختلفة يجمع سياسيين وإعلاميين، يجدون في الجرائم المرتكبة من دُعاة الجهاد الإسلامي الجديد، أو في التوتّرات التي تضع شبّاناً في ضواحي المدن المهمّشة في مواجهات مع الشرطة، أو في ارتداء حجاب هنا و"مايوه شرعي" هناك، مناسبات لتقيّؤ مقولات عنصرية والدخول في مزايدات تستوحي شعاراتها من اليمين المتطرّف. والشعارات هذه، إضافة الى تخلّفها ومبالغاتها تخالف في ما خصّ التطرّق الى الحجاب مثلاً قوانين العلمنة نفسها المتيحة حرّية المعتقد والمسلك، وتعمّم حتى في ما هو مشروع مناقشته أحكاماً ثقافوية (أو جوهرية) وتُسقط فهماً تبسيطياً على وقائع معقّدة ومركّبة (مثل الهوية والانتماء والغضب من التهميش وعنف الشرطة والخدمات العامة) ليس صحيحاً أنه يمكن عزل التاريخ عند الحديث عنها، ولا اعتبارها مجرّدة من العناصر السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

ويخلق التداخل بين المسألتين المذكورتين، أي مسألة السخرية الكاريكاتورية من الإسلام ومسألة الإسلاموفوبيا المتصاعدة في ظلّ أزمات فرنسية وأوروبية وعالمية، وفي ظلّ عولمةٍ ووسائل تواصل تُخرج الحق بالتجديف من سياقه الفرنسي وتُسقط عليه سياقات وانفعالات مختلفة، توتّراً شديداً لدى بعض شرائح المسلمين في العالم، كما في فرنسا، ترى في ما تعدّه استهدافاً لكراماتها فعلَ استسهالٍ واستمراءٍ يجب الردّ عليه، والأهم، يمكن الردّ عليه. وربّما يكون في ذلك ما يفسّر المواقف في ما خصّ الرسوم التي تستهزئ بالنبي وصولاً الى تبرير قتل الرسّامين أو المتناقلين لأعمالهم، في حين يعمّ الصمت أو الاعتراض المحدود تجاه التمييز السياسي أو الاجتماعي ضد المسلمين أو حتى تجاه الجرائم المهولة التي تستهدفهم كأفراد وجماعات (في الصين وميانمار والهند مثلاً كما في معظم الدول العربية والمسلمة على أيدي حكّامها وأنظمتهم). ذلك أن الشرائح المستَفَزّة والمُستنفَرة تستسلم لما قد يبدو نيلاً منها اليوم بحُكم واقع لا تنكر تردّيه، أو بحكم موازين قوى لا يمكنها تغييرها. إلا أنها تثور حين يتمّ النيل ممّن تعدّه رمز مقدّساتها وموضع تفاخرها الوحيد المُجمَع عليه بوصفه صانعاً لماضٍ أمبراطوريّ مجيد، لم يفارق وعيها وطموحها، وتراه متفوّقاً على ماضي وحاضر سواها من الأقوام والشعوب (المتقدّمة عليها والساخرة منها اليوم)...

لا يبدو بناء على ما سبق، وفي ظلّ ظروف فرنسا والعالم، كما في ظل أحوال العديد من مجتمعات المسلمين والأكثريات المسلمة، أن الأمور ذاهبة في المستقبل القريب الى حلول أو معالجات أو إصلاحات تحول دون وقوع جرائم واعتداءات إرهابية جديدة من جهة، والى محاصرة الخطاب العنصري المقيت والمقاربات الأمنية المجتزأة الموازية له من جهة ثانية. فالعنف "الجهادي" السهل، المنخفض الكلفة والمولود من فقر سياسي ومن تعويض إخفاقات وعجز ومهانة بطعنة سكين أو بطلقة رشاش أو بدهسٍ لمارّة، يصعب وقفه وخنق مخيّلته الباحثة عن بطولة وعن مشهديّة تخلّد فعل الشهادة وفتح أبواب الجنّة المشتهاة. وظِلّ الأخيرة على الأرض مرجّح للمزيد من الانحسار لصالح واقع تتعمّق فيه الاختلالات والمظالم والعنصرية.

الأسوأ، بهذا المعنى، لم يحصل بعد، بل هو على الأرجح في ما سيحمله المقبلُ من الأيام.

زياد ماجد