لماذا يتلاقى اليمين العنصري
وبعض أطياف أقصى اليسار في أوروبا على العداء للثورة السورية؟
يطرح هذا السؤال نفسه منذ فترة
على كثر من الأصدقاء الذين تفاجئهم مواقف وتعليقات لكتّاب وصحفيين تتشارك في نقد
الثورة من منطلق العداء لها وحتى الدفاع عن النظام، وليس من منطلق الحرص أو الحياد
أو رفض الشوائب والأخطاء، وهي حكماً موجودة وكثيرة.
ويمكن أن ندفع السؤال الى أبعد
من ذلك. لماذا لا تحرّك الثورة السورية قطاعات ناشطة من المجتمع المدني
العالمي" أو "الغربي"، رغم أن الإعلام والمزاج الشعبي بشكل عام
متعاطفَين معها؟
تبدو الإجابة على السؤال
مركّبة، وتستند الى مجموعة من العناصر المتحكّمة بجوانب من النظرة السياسية
والثقافية الى المنطقة العربية وبالمعايير السياسية والأخلاقية التي تضبط العديد
من المواقف والكتابات في شؤونها، والتي تجعل التعاطف أو التضامن يبدو خجولاً إن
قورن بوقاحة الهجوم والتشكيك وبمثابرة أصحابه.
من هذه العناصر خوف كثرة من
القوى السياسية من اتّخاذ مواقف تجاه "الصراعات" في الشرق الأوسط "المعقّد"،
حيث تتراكم الحروب والنزاعات وتشتدّ النزعات الدينية وتتمدّد تأثيراتها عبر البحر
المتوسط نحو ضفافه الشمالية.
ومنها أيضاً تقدّم المنهج
الثقافوي لدى الباحثين عند مقاربتهم قضايا العالم وصراعاته، وبخاصة تلك المرتبطة بالعرب
وبلدانهم. فالعرب يبدون للثقافويين أقواماً تستسهل العنف سبيلاً لفضّ النزاعات،
وتغرف من بئر التطرف الديني ويصعب الرهان على قابليّتها للتحوّل الديمقراطي أو التحرّر
من أعباء "الاستبداد الشرقي". وبالتالي، ليست شدّة العنف المصاحبة
للثورة السورية استثناءً في سياق "حروبها الأهلية" الدائمة، ولا هي تستدعي
الذهول أو التحرّك العاجل.
ومن العناصر كذلك
"الإسلاموفوبيا" التي يتشارك فيها اليمين المتطرّف لأسباب عنصرية وبعض
التشكيلات اليسارية لأسباب تتخّذ من العلمانوية والحرّيات ذرائع لها. هكذا يتلاقى
كتّاب في أقصى اليمين مع بعض من هم في أقصى اليسار على دعم استبداد آل الأسد بحجّة
عدائه للإسلاميين عند الأوائل و"علمانيّته" عند الأخيرين. ويضاف الى
هؤلاء جميعاً مهووسو الأقليّات الذين يردّدون مقولات بائسة حول تهديدات الأكثرية
وأحقادها.
ومنها يُسر استسلام العديد من
الناشطين السياسيين، الطلاب منهم خاصة، لنظريّات المؤامرات لما فيها من تشويق
وادّعاء فهم لخفايا الأمور ووقوف على خُبث العلاقات الدولية. وإن كانت بعض
الجماعات اليسارية أقرب الى إدمان نظريات من هذا النوع، إلا أنها لم تعُد تحتكرها
منذ فترة. فاليمين المتطرّف ينازعها عليها ويعتبر المؤامرات "الإسلامية
الجهادية" كما المنظومات الدولية أوكاراً للمكائد والدسائس التي تستهدف
القوام الوطني للدول وتخترق حدودها وسيادتها.
ومن العناصر إياها أيضاً، تعالي
بعض الكتاب التقدميّين "المرموقين" والمؤثّرين في الرأي العام عن
التعاطي في قضايا الشعوب
وكراماتها وحرّياتها. فما يعنيهم هو الحدود والنفط والجيوستراتيجيا وأدوار الدول
الإقليمية المؤثرة وقرارات "الغرب" تجاهها. وبعضهم طبعاً يتطلّع الى
الصين وروسيا متأمّلاً عودة الحرب الباردة. وهم في ذلك يلامسون العنصرية ولو من
منطلق "الدفاع عن مصالح الدول العربية" متعاملين معها وكأنها كيانات بلا
بشر من لحم ودم وحقوق، أو كأنّ سكانها كتل صمّاء تسيّرها الخطط وتضلّلها الأكاذيب
"الغربية"، وما عليها سوى الالتفاف حول من يحميها (أو بالأحرى يدّعي
حمايتها) من الهجوم الإمبريالي عليها، حتى ولو اضطُر الى طحنها لتجنيبها نجاح
التآمر الخارجي!
ومن العناصر أيضاً وأيضاً،
تمنّع العديد من المثقفين الذين ناصروا القضية الفلسطينية بجرأة وتصميم عن التعبير
عن مناصرتهم للثورة السورية بحجة الخوف من تمزّق سوريا وانتشار الفوضى فيها على
نحو يفيد إسرائيل وأميركا.
ومنها أخيراً، استعداد كتّاب
بنوا شهرة ومصداقية على مدى عقود لإقامتهم في المنطقة العربية ومعارضتهم سياسات
بلادهم تجاهها، للكذب والنفاق مقابل الاستمرار في جذب الأضواء والمغايرة ومناكفة
ما يعدّونه سائداً في الإعلام في بلادهم، خاصة وأنه - كما حكوماتهم - ليس على
تناقض هذه المرة مع المواقف "الإنسانية" التي لطالما دعوا الى أخذها في
عين الاعتبار.
يمكن أن نضيف الى ما ذُكر عوامل
أخرى، مرتبطة بملل أصاب قطاعات من الرأي العام الغربي من ظاهرة الربيع العربي،
خاصة بعد فوز الأخوان المسلمين في انتخابات مصر وتونس، وبعد الحرب في ليبيا، وطول
المدى الزمني الذي تستغرقه الثورة السورية. ويمكن ذكر البُعد الجغرافي للمشرق
العربي (مقارنةً بالقرب الجغرافي والديموغرافي للمغرب). ويمكن بالطبع الحكي عن تشكيك
كثر بالدورين القطري والسعودي في ما خصّ سوريا، وقلقهم من انعدام استقرار يصيب
المنطقة ككل، وإسرائيل في قلبها. كما لا يجدر نسيان جهود النظام السوري وحلفائه
اللبنانيين والعرب وبعض الخبراء الاوروبيين المدفوعي الأجر الذين يروّجون مقالات
ومعلومات مفبركة عن الثورة ومخططاتها وعن الأهوال التي تتهدّد المسيحيين وتنذر بإعادة
السيناريو العراقي...
خلاصة الأمر أن الثورة السورية
اليوم لا تواجه نظاماً همجياً كنظام الأسد فقط، بل تواجه داعميه أيضاً، روسيا
والصين وإيران، وتواجه فوقهم كمّاً من المفاهيم العفنة المراوِحة بين العنصرية
واللامبالاة والأمراض الأخلاقية لبعض اليساريين و"مناهضي الأمبريالية".
وهي الى ذلك، لا تملك حتى الآن قيادة
سياسية وجهازاً إعلامياً للتعامل مع كل هؤلاء لأسباب كثيرة يمكن البحث فيها. لكنها
في المقابل، تملك شجاعتها الأسطورية، وتملك مثقّفين وفنانين وناشطين من طينة
استثنائية الإبداع والحكمة والنبل. وتملك مخزوناً من الصبر والأمل يجعل قدرة الاحتمال
فيها صعبة الاستنزاف، ومن دون فضل يُذكر لأي من الحلفاء (البخلاء)...
زياد ماجد