يجمع هذا الكتاب الصادر عن قسم الدراسات العربية في "المعهد الفرنسي للشرق الاوسط" أوراق العمل المقدمة في الندوة المنعقدة بمناسبة الذكرى المئوية لرحيل الإمام عبد الرحمن الكواكبي، صاحب "طبائع الاستبداد".
وينقسم الكتاب الذي قدم له وأشرف عليه الصديقان ماهر الشريف وسلام الكواكبي، الى جزأين:
- الأول بالعربية ويضم: "الثورة الفكرية الكواكبية: مبرراتها ومرتكزاتها" لعلي حمية، و"أبعاد الإصلاح الديني عند الكواكبي" لمحمد جمال طحان، و"مفهوم المتمجد في طبائع الاستبداد" لأحمد البرقاوي، و"التضاد والتركيب في فكر الكواكبي" ليوسف سلامة، و"وجهات نظر في العلمانية المؤمنة" للسيد محمد حسن الأمين، و"إشكالية تأويل القرآن قديماً وحديثاً" لنصر حامد أبو زيد، و"الفصل بين السياسة والشريعة في الخطاب الاسلامي المعاصر: الاصول والوظائف والمصائر" لمحمد جمال باروت، و"النظرية السياسية للتيارات الشيعية الراديكالية في القرن العشرين" لفالح عبد الجبار، و"محمد حسين النائيني (1277-1355 هـ/ 1860-1936 م) أول من نظّر للحكم الدستوري تنظيراً فقهياً في الاسلام" للشيخ جعفر المهاجر، و"أسباب فشل خطاب الاصلاح الديني" لأحمد موصلي، و"هل كان هناك إصلاح ديني إسلامي؟!" لمحمد كامل الخطيب، و"من إشكالية التوفيقية الى شروط النهضة" لأحمد الأمين، و" الشريعة بين القراءات السلفية-التقليدية ومحاولات التجديد" لمحمد شريف الدجاني، و"سدنة هياكل الوهم، بحث في الخطاب الديني للعقل الفقهي المشيخي (محمد رمضان البوطي مثالاً)" لعبد الرزاق عيد، و"من عمرو دياب الى عمرو خالد: الورع والثراء والشباب المصري" لآصف بيات، و"من غروب الاصلاح الديني الى تجديد الفكر الإسلامي" لماهر الشريف.
- والجزء الثاني بالفرنسية ويضم: "مصلح والعلم" لسلام الكواكبي، و"إصلاح وهوية: الإصلاحية عبر العصور" لآلان روسيون، و"الاحرار اليمنيون، التيار الاصلاحي والاخوان المسلمون: مؤشرات أولية للتحليل" لفرانسوا بورغا ومحمد سبيتلي، و"الحوزة أمام امتحان القرن: إصلاح التعليم الديني الشيعي الأعلى من العام 1909 الى أيامنا" لصابرينا ميرفان، و"ما مآلها؟ تفكر في تطور السلفية العراقية من آخر القرن الثامن عشر الى أواسط القرن العشرين" لإدوارد متينييه، و"وهابية وحداثة: جنيولوجيا الإصلاح الديني في الهند بين العامين 1803 و1914" لمارك غابوريو، و"قراءة القرآن عند محمد عبده ورشيد رضا وتأثيرها في الحركة الإصلاحية" لجان-إيف لوبيتال.
يشرح ماهر الشريف وسلام الكواكبي في تقديمهما للكتاب أن فكرة عقد الندوة انطلقت أولاً من أهمية إحياء مئوية الشيخ المنور، إبن مدينة الشهباء، لما خلّفه مع غيره من رواد النهضة العربية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر من تراث عشق للحرية والعدل والإصلاح يغني البحث في أحوال مجتمعاتنا اليوم وفي أحوال الفكر الديني السائد فيها. وانطلقت ثانياً من إحساس بأهمية الحوار بين الباحثين في حقل الدراسات الإسلامية في هذه اللحظة التاريخية الخطيرة، على أساس التمييز لدى الحديث عن الإصلاح بين الدين والفكر الديني، أي بين الثابت والمتحرك، واستعادة ما شغل الرواد الاصلاحيين من أسئلة حول سبل النهوض "بالأمة"، وصولاً الى ضرورة التفكر في ملابسات غروب الفكر الاصلاحي الديني ونجاح فكر تقليدي، متعصب ومنغلق، في احتلال بعض الفراغ القائم في الساحة الاسلامية. وهو أمر ساهم في تعزيز النوايا الصدامية عند عدد من الدوائر
الغربية الباحثة عن عدو جديد بعد انهيار المعسكر الاشتراكي
الغربية الباحثة عن عدو جديد بعد انهيار المعسكر الاشتراكي
وقد ضبط هذان المنطلقان اللذان حددهما الشريف والكواكبي معظم أوراق الندوة المجموعة في الكتاب، فانسابت الأوراق على تنوع مواضيعها وتفاوت مستويات البحث فيها، تعرض لفكر الكواكبي، أو تناقش التراث الديني مبرزة أهمية التأويل والتجديد بحثاً عن الاجوبة في مواجهة التحديات والمتغيرات، أو تحلل أسباب تراجع الفكر الإصلاحي الديني وسبل إعادة الاعتبار له.
على أنني اخترت في هذه المراجعة الاقتصار على ثلاثة قضايا أبرزتها الأوراق:
- قضية الاستبداد التي بحث فيها الكواكبي
- قضية التأويل وإعمال العقل كما أبرزتها كتابات رواد الاصلاح
- قضية تراجع الفكر الديني الإصلاحي والانقلاب عليه.
1- في أن الاستبداد أصل الداء
عرض كتّاب الأوراق حول فكر الكواكبي لما قاله الامام في الاستبداد. فهو، مثل سواه من رواد الإصلاح، بحث في أسباب التخلف الذي أصاب دول المسلمين ومجتمعاتهم. لكنه، وعلى نحو تميّز فيه عنهم، ركز في إجابته تركيزاً خاصاً على مسألة الاستبداد. فالاستبداد، بالنسبة إليه، هو الداء الأخطر الذي أصاب الأمة، والذي تأسست عليه عناصر التراجع والتخلف. فهو مولد الجهل والتعصب والفساد والعنف: "يضغط [الاستبداد] على العقل فيفسده، ويلعب بالدين فيفسده، ويحارب العلم فيفسده، ويغالب المجد فيفسده ويقيم مقامه التمجد" (والتمجد من أبرز صفات المستبد).
عرض كتّاب الأوراق حول فكر الكواكبي لما قاله الامام في الاستبداد. فهو، مثل سواه من رواد الإصلاح، بحث في أسباب التخلف الذي أصاب دول المسلمين ومجتمعاتهم. لكنه، وعلى نحو تميّز فيه عنهم، ركز في إجابته تركيزاً خاصاً على مسألة الاستبداد. فالاستبداد، بالنسبة إليه، هو الداء الأخطر الذي أصاب الأمة، والذي تأسست عليه عناصر التراجع والتخلف. فهو مولد الجهل والتعصب والفساد والعنف: "يضغط [الاستبداد] على العقل فيفسده، ويلعب بالدين فيفسده، ويحارب العلم فيفسده، ويغالب المجد فيفسده ويقيم مقامه التمجد" (والتمجد من أبرز صفات المستبد).
والأهم في بحث الإمام بالاستبداد قوله بمقامين منه: الإستبداد السياسي والاستبداد الديني، وتقديره أنهما غالباً ما يلتقيان فيستزيد أحدهما من الآخر. ويتولد عن التقائهما تحالف بين الأمراء والحكام من جهة ومن يسميهم "المدلسين والجهلة المعمّمين" من جهة ثانية، فيفسد الملك والاجتماع والدين. لذلك، كان الكواكبي يؤكد على ارتباط الإصلاح السياسي بالإصلاح الديني ارتباطاً وثيقاً، ويقول إن أهم أسباب تقدم الغرب، قيام العقلاء فيه بحركة اصلاح ديني أتاحت لهم في ما بعد الانطلاق والسير قدماً على طريق التطور والعلم.
تشير الأوراق المتناولة فكر الكواكبي أيضاً الى نظرته للتغيير. فهو يفضّل الإصلاح العاقل والمتدرج والشورى والدستور وتحقيق الحرية السياسية من خلال رفع مستوى الإدراك والوعي عند الانسان المسلم، الذي لا يتم بغير التعليم والتثقيف.
نتبيّن من الأوراق هذه أن الكواكبي، رغم اغتياله قبل إتمامه العقد الخامس من العمر (وُلد عام 1855 ومات مسمّماً عام 1902)، خلّف كتابات ناضجة ما زالت تشي براهنية نتيجة استمرار الاستبداد في "الأمة" وتكاثر المتمجّدين فيها، وحاجتها الى الإصلاح الديني والتغيير السياسي. ولا يقلل من راهنية هذا الفكر ما حملته مواقفه أحياناً من تضاد بين وعيه الديني ونزوعه التقليدي الى اعتبار العصر النبوي (وعصر أبي بكر وعمر) عصراً ذهبياً ونموذجاً لما يمكن أن يكون عليه الحكم في بلاد المسلمين، وبين إعجابه الحداثي بمبادئ الثورة الفرنسية وكتابات مفكريها وهم الجانحون الى إبعاد الدين والنبوة عن السياسة وإقامة الدولة العلمانية على أسس الحرية والأخاء والمساواة. فهذا التضاد يصعب تخطّيه في الأدبيّات الدينية، والمهم لتجاوزه إحداث القناعة بأن ما كان سيظلّ نموذجاً غير قابل للتكرار، وأن الاستيحاء منه لتكييف الحياة مع متطلباتها المستجدة هو سبيل الاستمرار.
2- ما تراجع قوله في التسامح والتأويل... والعلمانية
يبحث عدد من أوراق الندوة في المكانة التي احتلها مبدأ التأويل في الأدبيات الإسلامية. ويقدّم نصر حامد أبو زيد مطالعة تتناول إشكالية التأويل عند المسلمين قديماً وحديثاً.
ينطلق أبو زيد، بعد إشارته الى ورود عبارة "التأويل" أكثر من عشر مرات في القرآن مقابل ورود عبارة "التفسير" مرة واحدة، من الاستشهاد ببعض ما قاله قدماء مثل علي بن أبي طالب (قوله لابن العباس محاجج الخوارج "لا تحاججهم بالقرآن، فإن القرآن حمال أوجه، حاججهم بالسنة"، واعتباره أن القرآن "بين دفتي المصحف لا ينطق وإنما يتكلم به الرجال") ليظهر أن التجاذب في التعاطي مع النص القرآني بدأ في وقت مبكر من التاريخ الإسلامي، وأن التأويل كان شائعاً، وأنه راح يتطور ويتغذى من علم الكلام والمنطق والفلسفة الى أن صار مع المعتزلة مذهباً فكرياً يعملونه في ردودهم على أهل المذاهب الأخرى. وقد اعتمد المعتزلة على آيات قرآنية مثل "فيه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات"، أي أخر لا تؤخذ بحرفيتها بل بتأويلها (كتأويل العقل لمسألة "استواء الله على العرش").
ويشير أبو زيد الى ان التحايل على الحق في التأويل جاء مع المتأخرين بعد القرنين الرابع والخامس للهجرة، حين شاع الحديث عن "الرأي المقبول" و"الرأي المذموم" في مجال التأويل، فاعتبر كل مخالف للجماعة على رأي مذموم. ثم جاء ابن تيمية وتلميذه ابن القيّم ليسلطا السيف على منطق التأويل، ويحملا على "التفاسير الضالة والتأويلات المنحرفة" التي لا بد من وقفها درءاً للخطر المتهدد الدين الحنيف.
وفي معالجته لإشكالية التأويل في العصر الحديث، يتناول أبو زيد فكر محمد عبده واشتغاله على طريقتي السلف والخلف، وانقسام مريديه الى تيارين ما يزالان يشكلان قطبي الصراع على الساحة الإسلامية: طريقة السلف ومنها نهل رشيد رضا ومن بعده حسن البنا مؤسس جماعة الأخوان المسلمين، وطريقة الخلف ومنها نهل علي عبد الرازق وطه حسين وأمين الخولي ومحمد أحمد خلف الله. ويورد حججاً بليغة حول ما قاله عبده في التأويل تأكيداً على عدم جواز تعارض العقل والقرآن. كما يعرض لما نادى به عبده، ومن بعده طه حسين، حول القصص القرآني من ضرورة أخذ ما فيها من عبر ومن مخاطبة لعقل العرب في مرحلة تاريخية معينة، من دون البحث في مدى دقة ورودها تاريخياً، إذ أن القرآن ليس كتاب بحث في التاريخ.
على أن طريقة السلف أقفلت الباب أو تكاد امام أتباع طريقة الخلف، وعانى كل من اعتمد التأويل محنته، من علي عبد الرازق وطه حسين، الى أمين الخولي ومحمد أحمد خلف الله، وصولاً الى أبي زيد نفسه. والمحن هذه، توحي بأن لا مجال للتسامح ولاحترام الاختلاف والحرية في التفكير الإسلامي، كما يفهمه أكثر الحديثين من اهله.
لكن عدداً من الاستشهادات القرآنية الواردة في ورقة محمد شريف الفرجاني تظهر عكس هذا الفهم المحدود. ففي بحثه في محاولات التجديد، يركز الفرجاني على آيات تؤكد مبدأ التسامح وتشير الى إمكانية قيام حكم مدني في الإسلام لا يتنافى والقرآن الذي أكّد على السلطة التبشيرية للرسول، لا السلطة السياسية له كحاكم: "إنا أنزلنا عليك الكتاب للناس بالحق فمن اهتدى فلنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنت عليهم بوكيل"، و"فذكر إنما أنت مذكر ليس عليهم بمسيطر"، و"ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء"... فما يمكن فهمه في هذه الآيات هو تسامح الإسلام مع من "لم يهتد" تأسيساً ايضاً على أن "لا إكراه في الدين" "ومن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر" من ناحية، وإفساحاً في المجال لحكم مستقل عن الدعوى الدينية وعن الهداية الاسلامية من ناحية ثانية. وهذا ما كان علي عبد الرازق قد حاول قوله في "الاسلام وأصول الحكم"، وهو بالتحديد ما يفتح الباب أمام موقف من الدعوة للفصل بين البحث في الغيب والبحث في إدارة شؤون الدنيا إنطلاقاً من معرفة الانسان ومن عقلهوالسيد محمد حسن الأمين في مداخلته المختصرة والمكثفة يقدم رأياً في ذلك، أحوج ما تكون إليه المجتمعات الإسلامية اليوم. فهو يعتبر إن العلمانية (المشتقة لفظاً من العالم وليس من العلم) بما هي احترام للعقل وللفكر الإنساني لا تتعارض والدين. فالعالم هو مصدر للمعرفة العلمية، والوحي الآلهي مصدر للمعرفة الغيبية لا ينافس العلم أو ويصادره. والمعرفة وكدح الانسان هما المصدر الوحيد لفهم عالم الشهود أي التاريخ والانسان والمجتمع والكون والحياة. ويرى السيد الامين أن الإسلام كدين رمى الى تحرير الإنسان من الاستلاب والتشارك في صنع الحقيقة الانسانية، وبالتالي لا يمكن أن يكون عقبة أمام العقل وحاجزاً أمام حرية البحث ووسيلة لتكفير الباحثين.
وبذلك، تصبح العلمانية المؤمنة المحترمة الدين والإنسان "مذهباً" إصلاحياً يمكن التأسيس عليه لإعادة الاعتبار للتراث الثقافي النهضوي...
3- في أسباب الغروب الإصلاحي
يقدم ماهر الشريف مطالعة في تحليل أسباب غروب الخطاب الإصلاحي وعدم تجديد الفكر الديني منذ بدايات القرن المنصرم. ويستعرض الشريف مرحلة بدايات النهضة، من تاريخ صدور كتاب رفاعة رافع الطهطاوي "تخليص الإبريز في تلخيص باريز" عام 1834 الى لحظة إنشاء بطرس البستاني عام 1863 أول مدرسة علمانية في جبل لبنان، الى تاريخ ظهور كتاب خير الدين التونسي "أقوام الممالك في معرفة أحوال المسالك" خلال الحراك الثقافي لخريجي جامع الزيتونة في تونس في ستينيات القرن التاسع عشر، وما رافق ذلك من ترجمات وكتابات وتأثر بالمنورين الاوروبيين فولتير وروسو ومونتسكيو وبالاصلاحيين الأتراك، وتشكل جمعية "العروى الوثقى". ويركز الشريف على الدور الهام الذي اضطلع به السيد جمال الدين الأفغاني (1839 – 1897) في تعزيز كل هذه الإرهاصات والاستفادة منها لتطوير فكر إصلاحي ديني بنى عليه فيما بعد صديق الأفغاني وتلميذه محمد عبده (1849 – 1905). فالأفغاني قال بالنهوض بالمجتمعات الاسلامية من خلال حركة تنويرية يكون الاسلام العقلاني المنفتح على العلم رافعتها. ودعا الى اللجوء الى التأويل كل ما تعارض الدين الإسلامي مع الحقائق العلمية. وقد أكمل عبده هذا النهج، فكتب حول حرية الفرد وحرية التفكير وضرورة فهم الاسلام على أنه دين العقل القادر على التأسيس للمجتمع الحديث، مؤكداً أن الدين لا يحتاج الى السلطة السياسية، بل هي التي عمدت الى التلطي به لتبرير جورها وفسادها فأصابته بالأذية وألصقت به الشوائب الواجب إزالتها. وحاجج عبده ضد التكفير معتبراً الحرية الفردية أساساً من أسس الإصلاح. أما عبد الرحمن الكواكبي (1855 – 1902)، فركز كما ذكرنا على الاستبداد معتبراً الحرية السياسية شرط الإصلاح الواجب قيادته من حكماء "لا يبالون بغوغاء العلماء الغفل الأغبياء والرؤساء القساة الجهلاء، يجددون النظر في الدين فيعيدون النواقص المعطلة ويهذبونه من الزوائد الباطلة مما يطرأ عادة على كل دين يتقادم عهده، فيحتاج الى مجددين".
ثم تابع علي عبد الرازق (1888 – 1966) في كتابه "الإسلام وأصول الحكم"، هذا النحو الإصلاحي، واشتغل على مسألة فصل الولاية المادية للحاكم عن الدور التبشيري للرسول (فكيف بالدعاة وأئمته)، فيما كتب قاسم أمين والطاهر حداد عن تحرر المرأة، ونشط عشرات المثقفين الشوام والتونسيين كتابة وتجديداً لغوياً وفكرياً، فبدا أن تحويل الفكر النهضوي الى حالة إصلاحية دينية وثقافية بات مسألة وقت وتراكم جهود وتجارب.
غير أن انقلاب صاحب مجلة "المنار" الإمام محمد رشيد رضا (1865 – 1935) على فكر أستاذه محمد عبده إثر وفاته، وتحوله من داعية تجديد وعلم الى داعية جهاد ضد "المارقين" الهادفين الى هدم الدين وفصله عن الدولة وفرض تهتك النساء، وهجومه العنيف على من أسماهم بالمتفرنجين والملاحدة، من رواد تلك الحقبة، لا سيما علي عبد الرازق وطه حسين وقاسم أمين، شكل نقطة تحول في المسار الإصلاحي. فقد أسست حملات رضا على دعاة الإصلاح أرضية تموضع فيها جميع المحافظين والتقليديين ورافضي التطور والتجديد. كما شكلت قاعدة استند إليها حسن البنا (1906 – 1949) في دعوته لنبذ الحضارة الغربية ومؤسساتها وإصلاح الذات الاسلامية وتنقيتها من الشوائب عودة الى الاسلام الأول الكفيل وحده بالنهوض بالأمة. ثم كان لدعوة سيد قطب (1906 – 1966) الى أخذ العلوم البحتة من الغرب ونبذ علومه الاجتماعية والإنسانية والفلسفية، ولاعتباره أن الحقيقة ملك الطليعة المؤمنة التي تعيش بمنهج الله، وتقسيمه المجتمع الى إسلام وجاهلية، أن أطلقت العنان لحملة مضادة عينفة في وجه المساعي الإصلاحية، وأسّست لبعض اتجاهات الإسلام السياسي التكفيري المسلك.
وقد رافق غروب الإصلاح الديني وسيطرة الإسلام "السلفي" صعود لتيارات سياسية علمانية تدعو الى البحث في إصلاح المجتمع والسياسة اعتماداً على الاشتراكية أو القومية أو الليبرالية وغيرها من التيارات المؤثرة في الغرب. وقد ابتعدت هذه التيارات عن تراث النهضة وأهملت الاصلاح الثقافي والديني في دعاويها الإصلاحية، ففوتت فرصة تأمين تواصل تاريخي واستمرارية نهضوية.
ثم جاء مبدأ إعلاء حرية الوطن على حرية المواطن والتحول الى العقل الانقلابي في الحياة السياسية والحكم السلطوي ليقضي على أي أمكانية إعادة اعتبار للإصلاح ولرواده الفكريين.
وربما ينبغي أن نضيف أن الصدام بين الأنظمة المستبدة باسم القومية أو الاشتراكية والعلمانية وبين تيار الأخوان المسلمين وغيره من التيارات الإسلامية، كان له تأثير كبير على المسار الانحداري سياسياً وعلى التشدد إسلامياً واعتماد العنف وسيلة في الصراع.
المهم اليوم، وهي دعوة الندوة التي حملتها أوراق الكتاب العربية بأكثرها، العودة الى استكمال تراث الأفغاني وعبده والكواكبي وحسن النائيني (الذي قدم الشيخ جعفر المهاجر بحثاً في فكره المستنير وفقهه الإصلاحي) رغم صعوبتها. وسيتطلب ذلك حتماً مساجلات هادئة كتلك التي يقدمها نصر حامد أبو زيد والسيد محمد حسن الأمين، أو ساخنة كمثل التي يقدمها عبد الرزاق عيد في في نقده لمن يسمهيم "سدنه هياكل الوهم".
والمهم أيضاً، هو التوقف عند أسباب الغروب الإصلاحي، على نحو ما فعل ماهر الشريف، للإنطلاق من جديد، في مرحلة صار الإصلاح (السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثفافي) شرطاً لا غنى عنه لمواجهة التحديات الداخلية والخارجية المتعاظمة والمتراكمة منذ عصر النهضة المجهضة وحتى اليوم.
*****
بقدر ما يترك هذا الكتاب أثراً طيباً في القارئ لشعوره بعيد إتمامه بالمتعة الفكرية والفائدة التي جناها من قراءته، بقدر ما يصيبه بالكدر لتيقنه أكثر فأكثر من حجم التراجع الذي أصاب "الأمة". فطرح نفس الاسئلة اليوم حول أسباب تخلفنا بعد ما يزيد عن القرن ونصف القرن من طرحها أول مرة، ومن دون المباشرة بتحويل بعض الأجوبة الى واقع، يؤشر الى حجم التردي والمراوحة الذي تعيشه مجتمعاتنا. فقد ضاعت عقود من أعمارنا أو تكاد، وستضيع عقود إن لم نُعد العمل على إطلاق نهضة جديدة يكون فتح "قفل الإسلام" (العبارة لياسين الحافظ) أحد ركائزها...
زياد ماجد
مراجعة كتاب نُشرت في مجلة الدراسات الفلسطينية صيف العام 2004
مراجعة كتاب نُشرت في مجلة الدراسات الفلسطينية صيف العام 2004