ليست القضية مرتبطة حصراً بمأمون الحمصي وعائلته ولا بعدد من المعارضين السوريين المسالِمين المقيمين بقلق وترقّب فوق الأراضي اللبنانية، ولو أن تأمين اللجوء الكريم لهؤلاء وتجديد إقاماتهم واجب سياسي وأخلاقي يرتبط بقيَم حقوقية وبثقافة حرّية ميّزت لبنان لعقود طويلة
القضية أبعد من ذلك.
هي قضية دور بيروت وعلاقتها بالديمقراطية وبحقوق الانسان وبحرّية التعبير في منطقة عربية ضاقت فيها السبل أمام كل من يُعلي صوته نقداً لنظام أو لسلطة أو مساءلةً لنصوص وخطابات يُراد لها أن تكون "مقدّسة"، وأن تُقيم خطوط التماس الحُمر بين ما يمكن البوح به وما يجب قمعه أو مراقبته ذاتياً ثم بوليسياً.
وهي أيضاً قضية خضوع الأجهزة الأمنية والإدارية اللبنانية لمؤسسات السلطة السياسية التي تقرّر دون سواها، وبناء على الدستور والقوانين وعلى المعاهدات والمواثيق الدولية التي صدّق عليها لبنان، سبل التعاطي مع ملفّات الأفراد وإقاماتهم ومع حقوقهم وواجباتهم.
والسكوت عن كل ذلك، هو استقالة من واجب المواطنية ومن حسّ المسؤولية اللذَيْن يُفترض أن كثراً من الحقوقيين والناشطين والصحافيين والمثقفين عامة في لبنان يتمسّكون بهما.
لقد كانت بيروت لسنوات خلت دار نشر وقاعات فنون، وكانت مقهى ومنتدى وجامعة وسوقاً ورصيفاً وبحراً وملاذاً وجريدة للبنانيين والعرب. وكانت مدينة منفتحة على مختلف التيارات والأفكار والتناقضات، تعيش بها ومعها، فصنعت بذلك سيرتها، ورسمت دورها وريادتها
وإذا كان الحرص عليها وعلى استقرارها وازدهار الأعمال فيها واجب بعد الأهوال التي تعرّضت لها، فإن ذلك لا يكون بالخضوع لمنطق القوة والابتزاز وللعنف الرمزي أو المادي الكاره لها والساعي الى تخييرها بين الحرية والسلام. بل يكون بحكم القانون فيها، باحترام أهلها وضيوفها لموجِبات العيش واللجوء إليها بموازاة احترام حرّياتهم الفكرية وكراماتهم الإنسانية وسلامهم.
بهذا المعنى، وبمعزل عن الانحياز البديهي لقضية الديمقراطية في سوريا وفي جميع البلاد العربية، وقبل ذلك، فإن المطالبة بتجديد إقامات الحمصي وسائر المعارضين السوريين (وغير السوريين) هي مطالبة بالتمسّك بتاريخ بيروت وبثقافتها وبحرية أبنائها. وهي دعوة للاحتكام السياسي – وبأُمرتِه الأمني والإداري- الى مقدّمة الدستور اللبناني والى شرعة حقوق الإنسان التي تأتي قبل أي شرعة أو تدبير أو اتفاقية أو "علاقات مميّزة"...
زياد ماجد