يُبرِز السجال الدائر حول "المحكمة الدولية الخاصة بلبنان"، بمعزل عن صحة التسريبات حول توقيت القرار الظني الذي سيصدر عن المدّعي العام ومحتوى هذا القرار ووجهته الإتهامية، ثلاث قضايا يُفيد التوقف عندها لإظهار المدى الذي بلغه التأزّم في الثقافة السياسية السائدة وخطابها
القضية الأولى هي قضية "وضع المحكمة في مواجهة السلم الأهلي"، أي جعل مبدأ تقديم خلاصات التحقيق والاستقصاء والتحليل القانوني الى قضاة ومحامين ولجان اختصاص علمي رديفاً للفوضى والاقتتال. وهذا، في ما يتخطّى الاعتبارات اللبنانية والإقليمية وما فيها من اتّهامات ونظريّات مؤامرات لا تنضب (وسنعود إليها)، يُصيب فلسفة القانون في صميمها. فالأخيرة بُنِيَت تحديداً لإحقاق شكل من أشكال العدالة يمنع الفوضى وعمليات الثأر ويضبط ردود الفعل الغريزية جاعلاً أقواس المحاكم منابر للإدانة والعقاب أو للتبرئة ورفع المظالم. أما وأن يجري تحويلها الى محل للمقايضة والتهديد بالعواقب الوخيمة، فالقضية رسالة خطيرة مفادها تكريس حصانة القتلة، وحجب الحق عن الضحايا باللجوء الى المحاكم، كي لا تُخرب بيوتهم وينهار عمرانهم.
والقضية الثانية هي قضية "الفتنة المتوقّعة عقب صدور القرار الظني المشبوه"؛ وهي إذ تتأسّس على القضية الأولى، تتخطّاها لتؤكّد إقراراً بسطوةٍ حتميةٍ للعصبيات الأهلية وجماعاتها على سيادة الدولة ومؤسساتها السياسية والقانونية والأمنية. فأن يُتّهم فردٌ من جهة، أي جهة، يعني أن "الجماعة" التي ينتمي إليها ستتواجه تلقائياً مع جماعة أخرى. ويعني أيضاً أن الجماعات جميعها أدوات جاهزة للتحرك وفق "المخطّطات" المعادية بلا تردّد وبلا قدرة لأحد على ردعها أو منعها من القفز بعزم وتصميم في الأفخاخ المنصوبة منذ زمنٍ لها. وهذا لعلمنا عجز عن فعل شيء لدرء الفتن ومنع المضلِلين أو المضلَّلين من سوقنا نحوها. أو هو ببساطة تهديد بها وبإشعالها.
القضية الثالثة، ونعود من خلالها الى الاعتبارات الموضوعية في لبنان والمنطقة، هي قضية تسطيح العلاقات والقوانين الدولية وإعمال الأحكام الجاهزة في كل ما يتحرّك فيها، واعتبار أن "لا شيء يصدر عنها سوى المكائد ونوايا الشر المبيّتة" والمأخوذة القرارات فيها سلفاً
أما التساؤلات عن أسباب عدم إنجاز القرار الظني مثلاً في العام الأول أو الثاني أو الثالث أو حتى الرابع طالما أنه "جاهز"، وعن عدم فبركة الدلائل وتمرير الألغام من اللحظة الأولى في ظرف دولي كان مؤاتياً لذلك أكثر من اليوم (تحكّمت به وقتها إدارة بوش وتعاونت معها لبنانياً إدارة شيراك)، وعن الاستمرار بالتحليل والاستقصاء وجمع الشهادات، فجميعها لا قيمة لها بما أن كل شيء "إسرائيلي" ومُستهدف لأمّتنا ووطننا.
هكذا، تُشطب في خطابنا مصداقيات جميع الناس وكفاءاتهم واحترام كثر منهم القانون وقيَم العمل والأمانة، وتُزال التناقضات في المصالح من قاموسنا وتُسقط التبدّلات في موازين القوى وأدوار كتل الضغط والإعلام والصراعات حول المواقع والمراكز والتشريعات من فهمنا للعالم وتعاملنا معه مواجهةً أو تجاوباً، وتُستبدل جميعها بنظريات التآمر والاستهداف...
وكل هذه القضايا إن دلّت على شيء، فعلى عدم قدرتنا على التصرف بمسؤولية في المنعطفات الكبرى، وعلى استسلامنا الدائم للمبادرات والمساعي "الحميدة" كما للصراعات والمؤامرات، القائم منها والمُتخيّل والمُتحوّل بهمّة الجماعات المتأهّبة للتناحر أمراً واقعاً...
زياد ماجد