Saturday, August 23, 2025

أن تكون/ي يسارياً/ة في لبنان اليوم

ما الذي تعنيه صفة "اليساري/ة" في بلد مثل لبنان في العام 2025، في ظلّ كل ما جرى ويجري داخله وفي المنطقة المحيطة به، وفي ظل تراجع اليسار واليساريين وانقسامهم الى تيارات ونُحل معظمها متخاصم منذ عقود؟

ولماذا استمرّ ذكر اليسار وهجاؤه في أوساط محافظة (بعضها أكثرويّ في طائفته) رغم تواضع حجمه وضعف تأثيره على السياسة والخيارات السياسية؟

قد تكون الإجابة الأمثل، أو بالأحرى محاولة الإجابة، هي تلك المبنية على قضايا يرتبط بها تعريف اليسار، وتثير كل واحدة السخط من قبل هذا الطرف أو ذاك من الأطراف المهيمنة على السياسة والاقتصاد.

أولى القضايا، وأكثرها علاقة بالتعريف الكلاسيكي، هي قضية العدالة الاجتماعية، التي يُعدّ الانحياز الثابت إليها والبحث في سُبل تحقيق حدّ مقبول من شروطها أبرز عناصر الفرز بين اليسار وسواه، إن لجهة التركيز على تطوير الخدمات الصحية والتعليمية الرسمية (المجانية أو شبه المجانية) وتحسين ظروف العاملين والعاملات فيها؛ أو لجهة دعم النشاط النقابي المطلبي والتخصّصي لضمان شروط عمل ودخل مقبولة للمنضوين في الأنشطة الإنتاجية وتأمين سلامتهم؛ أو لجهة فلسفة الاقتصاد نفسها وضرورة التركيز على احترامها لتعدّد المجالات والقطاعات وللبيئة واستدامتها؛ أو في ما يخصّ النظام الضريبي ومبدأ زيادة الضرائب على أصحاب الثروات الكبرى وعلى السلع التي يستهلكونها هم حصراً مقابل تخفيضها على ذوي الدخل المحدود بما يساهم في تمويل خدمات حيوية في المجتمع وتقديم ضمانات للشرائح الاجتماعية والعمرية الأكثر عرضة للمصاعب الحياتية؛ أو راهناً في ما يرتبط برفض تحميل الدولة والمودعين القسم الأكبر من خسائر القطاع المصرفي، والتركيز على مسؤولية المصارف نفسها وسياسات الهندسة التي اعتمدها البنك المركزي بالتواطؤ معها ومع بعض السياسيين والمتموّلين، ودعم إعادة الهيكلة المصرفية ورفع السرّية والمفاضلة بين خيارات التعويض التي يمكن اتّباعها وفق أحجام الإيداعات.

وتتصّل بالأمر طبعاً سلسلة مسائل تخصّ النساء والتمييز ضدّهنّ في سوق العمل وفي القرارات المتعلقة بالدخل والتعويضات والإجازات وغيرها من ممارسات استغلالية سادت وتسود بلا مراجعات جدّية أو محاولات إصلاح ولو بالحدّ الأدنى. 

ثاني القضايا، قضية الإصلاح السياسي والإداري وعلاقتها العضوية بالمسألة الطائفية، لناحية فلسفة التمثيل والاختيار والاقتراع، ولناحية التعيينات والزبائنية التي تحوّلت الى مسلك "عادي" في حياة البلد ومؤسساته، ولناحية مناهج التعليم وشؤون الأحوال الشخصية. والتحدّي اليساري في هذا الباب يكمن اليوم في القدرة على بلورة مقاربة شاملة لا تتهرّب من الطرح العلماني على كل المستويات، ولا تُسقط من فهمها للواقع المخاوف الديموغرافية ولا التمرحل الزمني الواجب اعتماده ولا بعض إيجابيات "التوافقية" التي لا تسمح بسطوة عددية. ولا بدّ هنا من التذكير بأهمية إنشاء مجلس شيوخ على أساسٍ يحفظ تمثيل الجماعات الطائفية و"يطمئنها"، والسير بتحرير المجلس النيابي ثم الحكومة من التمثيل الطائفي، والعمل على توسيع اللامركزية الإدارية وتطوير مفهوم التنمية المحلية، مع اعتماد اختياريّات في قوانين الاقتراع (مكان القيد أو مكان السكن) كما في قوانين الأحوال الشخصية.

فإذا كانت الطائفية معطى متحرّكاً يرتبط جدلياً بالسياسة وقوانينها وممارساتها في لبنان ويتغذّى من شبكات الانتفاع والولاء ومؤسسات الطوائف واقتصاداتها، فالمطلوب يسارياً في مواجهته مقاربات مركّبة وتجريب سياسي وعمل ثقافي وإعلامي مضاد، لا يستسهل الموضوع وما يرتبط به من مكاسب وهواجس، ولا يستسلم له بذريعة "الواقعية" و"الحكمة" وسائر ما يردّده داعمو الطائفية بحجّة انتفاء شروط البديل. فالبديل يُصنع في الثانويات والجامعات والجمعيات والنقابات والحركات النسوية والحقوقية وفي الإعلام البديل، كما في المسلك الفردي وفي تعامل المجموعات اليسارية معه ومع متطلّباته وما يقتضيه من تحالفات وخيارات.

ثالث القضايا يرتبط بالمعطى الحقوقي وبشكل ربط الكفاحات المختلفة ببعضها. من الكفاح في سبيل الحرّيات العامة والخاصة، بما فيها حرّية اختيار العلاقات الشخصية والهوية الجنسية، الى الكفاح النسوي بمنطلقاته السياسية والاقتصادية والثقافية، الى الكفاح البيئي والدفاع عن المستقبل في مواجهة الاستغلال وتوحّش المشاريع الملوّثة للبيئة والمصادِرة للأملاك العامة وللواجهات البحرية، الى الكفاح من أجل حقوق العاملات والعمال الأجانب وحقوق اللاجئين الفلسطينيين والسوريين والسودانيين وغيرهم، ومكافحة العنصريات على أشكالها، وصولاً الى الكفاح الثقافي والدفاع عن حرّية الإبداع في وجه الرقابة السياسية والأمنية والدينية. وهذا كلّه يحميه عمل تحالفي و"تشبيكي"، ويحميه أيضاً قضاء مستقل يضمن حقوق الأفراد ويحمي مبدأ "دولة الحق والقانون". والمطالبة بإعادة بناء هكذا قضاء محورية في أي برنامج يساري لبناني.

القضية الرابعة هي القضية الفلسطينية. واليسار هنا مُطالب بالخروج الواضح من خطابين. خطاب ممانعة (قومية أو دينية) سقيم استخدم فلسطين لتبرير موبقات وقمعٍ واستبداد وكسلٍ فكري، وخطاب عداء للممانعة يعتمد نفس آلياتها معكوسة، فينسب الفضائل الى كل خروج من الارتباط بالشأن الفلسطيني، ويبسّط التعامل مع تعقيداته مُحيلاً إشكالياته الفلسفية والقانونية والأخلاقية وتكريسه مبدأ حصانة المرتكبين الأقوياء للجرائم في المنطقة، وتلويثه علاقتها بسائر العالم وصولاً اليوم الى حرب الإبادة الأشرس كونياً منذ مجازر النازية، يحيل كلّ هذا، الى مسؤوليات ثقافية عربية أو الى مسائل هلامية لا يُفهم منها مقصد واضحٌ، إذا ما استثنينا الرغبة بسلام مع طرف لا يريده ولا يقبل به أصلاً.

على أن الكلام المذكور لا يستقيم من دون توضيح مفاده أن الكفاح في سبيل فلسطين لبنانياً لا يمكن أن يكون مسلّحاً. فبعض القوى اللبنانية (اليسارية والقومية والدينية) خاضه بأشكال مختلفة منذ ستينات القرن الماضي، وآن أن تُطوى صفحته لأسباب ترتبط باستحالة تبديل موازين القوى العسكرية وبالخسائر اللبنانية الفادحة (بما فيها الانقسامات الأهلية الخطيرة) وبتحميل الناس (الجنوبيّين بخاصة) ما ليس بمقدورهم ولا بمقدور البلد ككلّ احتماله. وهذا يعني اليوم تحديداً ضرورة حصر السلاح بيد الدولة وبلورة سياسة دفاعية ضد التهديدات الإسرائيلية لا يُمليها حزب الله أو أي طرف آخر (ناهيكم بأثر السلاح على كل ما سبقَ أن ورد من قضايا اقتصادية وسياسية ومجتمعية). وهذا يعني أيضاً، اعتماد استراتيجيا إعلامية وحقوقية وديبلوماسية في مواجهة إسرائيل، تدعم الجهود القائمة دولياً، التي تقودها دول إفريقية وآسيوية ومن أميركا الجنوبية، ومنظمات حقوقية هي الأكبر والأكثر مصداقية في العالم.

والقضية الخامسة التي تحضر، هي قضية العلاقة بسوريا والعالم العربي، وبمنظومة العلاقات الدولية والتموضع تجاهها. وهنا ينبغي من جديد تجاهل خطابين: ذاك الذي ما زال ينادي بالقومية العربية ويقرأ العالم وعلاقاته انطلاقاً من "العداء للإمبريالية" بوصفها أميركية حصراً من ناحية، ونظيره في التعميم ولَو على النقيض، الدوني تجاه "الغرب" والهجّاء لكل ما يرتبط بالعرب (والإسلام)، أي المتعامل مع مئات ملايين البشر هنا وهناك من دون تمييز بينهم لا من ناحية ثقافاتهم ولا خياراتهم السياسية ولا طبقاتهم الاجتماعية ولا مواضع عيشهم، من ناحية ثانية. فأن يكون/تكون يسارياً/ة في لبنان اليوم، يعني من بين ما يعنيه، أن تعدّ الشأن السوري شأناً عظيم الأهمية لذاته ولتأثيره الكبير على البلد، وأن تعتبر العالم العربي بما فيه من كفاحات وديناميات وإمكانات وثقافات متعدّدة ومتنوّعة، بعيدة عن الروابط القسرية، عالماً حيوياً للبنان. أما العلاقات الدولية، فليس فيها إمبريالية واحدة، ولو كانت الأميركية هي الأقوى، بل فيها إمبرياليات مختلفة، عالمية (روسيا والصين)، وإقليمية، وثمة داخل مراكز الامبرياليات هذه، لا سيما في أميركا، حلفاء وقوى تغيير وحركات طلابية يُفيد التعامل معها، كما يفيد التعامل مع الحركات الاجتماعية في معظم أنحاء العالم (على طريقة "المنتدى الاجتماعي العالمي")، وفق مبدأ "أممي" وإنساني جديد (صارت فلسطين منذ سنتين مختبره الرئيسي).

هناك بالطبع قضايا كثيرة أُخرى، ونقاشات وتباينات حول كل قضية، وثمة من يمكن أن يضيف أنه من اللازم البحث في مسائل فكرية وفلسفية بموازاة أي نقاش سياسي مباشر بأجندة يسارية. وكل هذا وجيه ومفيد، وما المحاولة الآنفة أصلاً سوى استكمال موجز لمحاولات سابقة كثيرة وصدىً لمحاولات قائمة، ليس في شتمها ومحاولات تصغيرها من أطراف سياسية طائفية أو من أفراد متنفّذين سوى دليل على أهمية السير والاستمرار بها.

زياد ماجد

مقال منشور في ميغافون