في
مطلع التسعينات، نشر سجين سياسي سابق في إحدى دول أوروبا الشرقية مذكّراته.
قال
في واحدة من يوميّاته واصفاً "لعبة" مع النمل حاول من خلالها هزيمة
الوقت والوحدة والوحشة في زنزانته الإفرادية: "كنت كلّ ما صعد النمل من قاع علبة
الحلوى الى أعلاها ناقلاً بقايا السّكر، أعيده الى أسفل. أفعل ذلك مرّة بعد مرّة
الى أن يوقف محاولاته ويعتاد الدوران في جوار القاع".
هكذا،
وبكلمات قليلة، وصف ذاك السجين كيف دفع النملَ للقبول بشروط لعبته الساديّة:
الحركة في مكان محدّد في أسفل العلبة والاستسلام لفكرة أن كل محاولة خروج تعني قمعاً
أو إرغاماً على العودة الى المكان الأوّل. وطالما أن خطر القمع موجود، فلا جدوى أصلاً
من استمرار المحاولة.
وهكذا
أيضاً، وصف ذاك السجين ما يحاول الاستبداد، كل استبداد، فعله: إلزام الناس بالطاعة،
بالقبول بما يريده لهم، والكفّ عن محاولات التمرّد أو الرفض.
ولعلّ
السوريين والسوريات هم أكثر من يُدرك معنى أن يُلزَموا بالانصياع والتكيّف مع
شروطه. أن تُمارس عليهم الضغوط المادّية والمعنوية وأن يُسجنوا وأحياناً يُقتلوا
إن هم حاولوا التمرّد والخروج الى الضوء في مملكة فُرضت فيها العتمة واحتلّتها
التماثيل وأجهزة العسس.
ومع
ذلك، خرج منهم على مراحل رجال ونساء لم يقبلوا الانحناء ولا الدوران في "قاع
العلبة". ثم خرج منهم منذ عامين من لم يكتف برفض الدوران فقط، بل قرّر تحطيم
العلبة نفسها كي لا يبقى أي احتمال "قاع" يتيح الإستكانة من جديد. قرّر
الخلاص من الخوف. وقرّر العودة الى الزمن، الى الحياة التي نُهبت سنواتها السابقة منه
ومن أهله قبله. وها نحن نشهد منذ 730 يوماً كيف تحفر الأظافر السورية شقوقاً في
العلبة لتُزيل جدرانها وتُجوّفها، فلا يبقى قاع ولا إمكانية دوران "أبديّ"
حوله.
واليوم،
بعد سنتين، لا يسعنا ونحن نراقب كيف تتآكل العلبة - السجن وكيف تُنهكها الأظافر
المدماة سوى أن ننحني، إعجاباً ودهشةً، لأولئك الذين تمرّدوا وثاروا على الدوران
رافضين "العادة" والطاعة ومتخطّين أنفسهم شجاعةً وقدرة أسطورية على
المثابرة والتضحية.
كل
عام وهم بخير. وكل عام وسوريا، ملؤها الحرية والسلام، بألف خير...
زياد ماجد
من عدد مجلّة "سوريّتنا" المخصّص للعيد الثاني للثورة السورية