ثمة مقولة شائعة تُفيد أن "الهدم عمليّة سهلة أمّا البناء فأمر شائك". والتدقيق في هذه المقولة
حين تُعتمد شعاراً سياسياً يُظهر كم هي فارغة، وكم يُراد لها أن تسود كي تصبح حكمة
أو حُكماً يُعمّم على الأوضاع بسذاجة أو بخبث.
فهدم القائم والمُهيمن هو في مختلف المعايير أمر شديد الخطورة والصعوبة. وهو فعل ثوري جذري لا يحدث إلا نادراً في التاريخ، ويكون أثره مزلزلاً إذ يُزيل مؤسّسات وعادات وأصناماً ومفردات ووعياً وسلوكاً ومُسلّمات. والثورة السورية التي تدخل عامها الثالث هي بهذا المعنى عملية هدم شاقة لنصف قرن من الاستبداد والعنف والقمع والسجن واحتلال اللغة. وهي فعل تحطيم مادي ورمزي لنظام استعمر الدولة والمجتمع ووظّف الأولى بكامل عدّتها العنفية لتطويع الثاني وإخضاعه "الى الأبد". لذلك، فهي أيضاً فعل استعادة للزمن هدفه نزع الأزليةِ عن نظامٍ والقدسيةِ عن رأسه وتماثيله. وهي ككل ثورة كبرى فعل تكسير لمنظومات القمع الاجتماعي المستمدّة بُناهُ من البنى السياسية
التي يشكّلها الاستبداد نفسه
وهدم القائم والمُهيمن ثورة
كبرى تثير في مراحلها الأولى الرعب بالسويّة عند الحاكم وكثرة من المحكومين.
فالهدم يُنهي حُكم العادة ويُطيح بالأجوبة و"البديهيات"، ويُحلّ مكانها
الأسئلة والاحتمالات والمخاطر. وهو يكشف عند كل انهيار لما يستهدف حجم التشوّهات في
ما كان قائماً، ويكشف في المقابل صعوبة التعامل مع الفراغ وإعادة ملئه وتجريب سبل هذا
الملء. ورعب اكتشاف التشوّهات والفراغ هو ما يجعل التردّد سمةً تواكبه لتيقّنٍ بعمق
التحوّلات التي سيثيرها اكتماله.
في المقابل، يواجه النظام
الأسدي رعب الثورة - مدعوماً بحلفائه الخارجيين - بكل ما يملك من أسلحة وآلات قتل.
فهدفه وحيد لا يسعه بتركيبته وبما صادره وابتناه من سلطةٍ وثروات المساومة عليه: الاستمرار
في المُلك والحيلولة دون فقدانه. وهذا يقتضي إبادة المجتمع الثائر وعمرانه وتجريم
التضامن مع الثورة وناسها.
لهذا، نحن اليوم أمام حدث سوري مزلزل
مستمرّ منذ أكثر من سبع مئة وثلاثين يوماً. الهدم فيه حربٌ ضروس، ومحاولات إعدام
"الهدّامين" فتك مُعمّم. الثورة نجحت حتى الآن في الشق الرمزي لعملية
الهدم لكنها لم تستكمل بعد الشق المادي. أما النظام فنجح في جعل كلفة الهدم باهظة،
لكنّه فشل رغم صواريخه وطيرانه وبراميله المتفجّرة وسكاكينه وزنازينه في وقف
علميّاتها أو في حماية نفسه من عناد الثائرين وتصميمهم على إزالته، وعلى تقديمه
للزمن ليُحيله ماضياً دميماً تخلّص منه السوريون.
ونحن أيضاً أمام استحالتين:
استحالة القضاء على الاندفاع الثوري واستحالة الحياد تجاهه. فالقضاء عليه يعني موتاً
معمّماً على بلاد بأكملها، والحياد صمت يُؤْثِر القائم ومعلومه على التغيير ويتمسّك
بسَطوة هذا القائم رغم انهيارها. وإذا كان موت بلاد مُحالاً، فإن الصمت تواطؤ إنتحاري
مع النظام وتعلّق بما سيُستكمل هدمه في المقبل من الأيام.
... الهدم كفعل ثوري يستمر في
سوريا إذن. وسماكة جدران الخوف والتسلّط كما تأبيد الزمن الاستبدادي تهاوت خلال
السنة الأولى، ليبدأ في الثانية هدم الجدران المادية المشيّدة حول السجون ومقرّات
المخابرات وحواجز الدبابات ومطارات الإعدام الجوي.
كل الأمل أن نحتفل قبل
انقضاء العام الثالث بانتهاء ورشة الهدم وآلامها، لنكتشف في العام الذي يليه بناءً
وقلقاً ومفردات جديدة لن يكون يسيراً التعامل معها، ولَو أنها لن تتحوّل الى استحالة
جديدة.
زياد ماجد