Wednesday, June 13, 2018

عن كأس العالم 1982 وحصار بيروت

مرّ الوقت بطيئاً وثقيلاً في بداية صيف العام 1982، عام اجتياح إسرائيل الثاني للبنان ووصول قواتها الى العاصمة بيروت.
الموت كان السياق العام المخيّم على المدينة، وتفاصيل الحياة اليومية بين جنازتين أو مسيرتَي تشييع كانت أشبه بالتحايل على الخوف والملل وقلّة الموارد في انتظار المجهول، أو في انتظار مباريات كأس العالم لكرة القدم!

العدّ العكسي لبدء البطولة الكونية كان قبل 6 حزيران، تاريخ بدء الاجتياح، الناظمَ الأول لروزناماتنا وساعاتنا. ننام ونصحو ونحتفي يومياً باقترابنا من الموعد الأبهى. نجمَع صوَر اللاعبين ونلصقها في صفحات ألبومات "الفيفا" المخصّصة لها، التي كنّا نشتريها طلال وحسّان ورغيد ومحمد ورياض وأنا من مكتبة "الرسالة العربية" على تقاطع خطّ البسطة وطلعة النويري. نتبادل مع باقي الأصحاب في الحيّ ثم في المدرسة الصور المكرّرة، إذ لا يملك واحدنا حين يبتاعها في مغلّفات سميكة مغلقة إمكانية اختيارها، وغالباً ما تتكرّر الصور ذاتها مؤجّلةً مهامنا في إتمام صفحات فرقنا الواحدة تلو الأُخرى. 

أذكر في 5 حزيران أنني كنت قد أكملت صفحات المنتخبات البرازيلية والألمانية الغربية والبولونية والأرجنتينية وأنه كان ينقصني صورة خوانيتو لأكمل الصفحة الإسبانية وغرازياني لأكمل صفحة إيطاليا وماريوس تريزور لأكمل فرنسا. في حين كانت باقي الصفحات ما زالت فارغة أو نصف فارغة. وبقِيَت كذلك. فالطيران الإسرائيلي أوقف مسيرتنا في إنهاء "ألبوماتنا" وأدمى انتظاراتنا، وقصفُه الذي استهدف بيروت عشيّة بدء الاجتياح البرّي وتواصل على مدى أسبوع سبَق بدء حصارنا، خلّف رعباً وقهراً رهيباً، وأبعد مكتبة "الرسالة" عنّا، نحن المقيمين على بعد شارعين منها، في محلّة رأس النبع. ولم أعد أدري في أي يوم قصفت الطائرات مبنى قريباً من المكتبة، قيل إن شارون ظنّ ياسر عرفات مقيماً فيه، وتبيّن أن الطيّار الإسرائيلي أخطأ في تعداد البنايات عند إطلاق صاروخه الفراغي، فنجا أبو عمّار وقُتلت أسمهان صديقة جدّتي وجارتها في الحيّ نفسه مع كامل عائلتها.

أقفلت مكتبة "الرسالة" بعد ذلك، وانطفأ مع إقفالها أمل العثور على خوانيتو وغرازياني وتريزور وسائر اللاعبين المفقودين من ألبومي، ولم يعُد للإتمام في أي حال معنىً طالما أن إمكانية التشارك أو التبادل أو التفاخر به تلاشت، ومثلها إمكانيات مراجعة الأسماء مع الأصحاب المتفرّقين وتحدّي الذاكرة عند "تسميع" التشكيلات الرئيسية المحتملة للمنتخبات ولاعبي الاحتياط المواكبين لها.
 
القصف الإسرائيلي على بيروت صيف العام 1982

في انتظار 13 حزيران

في 11 حزيران، كان الناس في الحيّ على موعد مع الكثير من الاستحقاقات. القوات الإسرائيلية وصلت الى خلدة ومشارف المطار، و"القوات المشتركة" تُحاول التصدّي لها ووقفها هناك. القصف يزداد شراسةً والحصار متوقّع في أي لحظة. نازحون كثر يغادرون نحو البقاع ثم الشمال عبر منفذ متروك على طريق بيروت دمشق، وآخرون يتحضّرون للمغادرة نحو الجنوب حيث هدأ القتال بعد معارك متفرّقة كان أعنفها في قلعة الشقيف وفي مداخل مخيّم عين الحلوة ثم على طريق الرميلة.

"سيترنات" المياه تصل صباحاً ويتجمّع حولها الأهل والجيران طلباً لملء الخزّانات و"الكالونات". كَميُون جرّات الغاز يدخل الزاروب بعد ذلك منادياً على بضاعته، والباقون في الحيّ حضّروا جرّاتهم الفارغة لتبديلها، مع قلقٍ من احتمالات غارة أو قصف تصيب شظاياه الكميون فتفجّر الحيّ بأكمله. الشعور بالمسؤولية ظُهراً أمام فرن الحطب في الشارع الموازي، حيث تنتظر لشراء ربطة الخبز العربي في وقت تتقلّص فيه كمّيات الطحين المتوفّرة في السوق، تجعلك تكبر فجأة أو هكذا تظنّ نفسك. والأهمّ من كل ما ذُكر، أن بعض الجيران كانوا يضعون اللمسات الأخيرة على التمديدات الكهربائية البديلة ويخبّئون في أماكن آمنة كمّيات من البنزين المخصّص لإدارة محرّكات سياراتهم بهدف شحن البطّاريات الممكن تشغيل إنارة "نيون" وأجهزة تلفزيون قديمة عليها.

الحدث الكروي المُنتظر بات على بُعد ساعات، وهو بالإضافة الى الحديث بالسياسة وباحتمالات الحصار ونتائجه، الشغل الشاغل لمحمد ومحي الدين وسامي، كما لوليد عيدو[1]، جارنا الذي يستعدّ لاستضافة من يريد في منزله في الطابق الثالث، حيث ركّب صديق له بطارية كميون "سيكس ويل" قادرة على الإنارة وإشعال التلفزيون الأسود والأبيض لساعات طويلة، ويمكن شحنها يومياً بجهاز دينامو "خاص بالمناسبة".

في 12 حزيران، بدت الصورة مقلقة لجهة تقدّم القوات الإسرائيلية واستكمال طوقها حول بيروت، ومطمئنة لجهة توفّر الوقود والبطّاريات وأجهزة التلفزة التي وإن اضطرَت أصحابها لِضربها أحياناً كي تثبت الصورة فيها أو يتوقّف تشوّش الصوت المنبعث منها، فهي على الأقل قادرة على التقاط بثّ محطة العربانية اللبنانية للأقمار الصناعية، أو التقاط صورة مغبّشة من محطات التلفزة الأردنية والسورية والقبرصية والمصرية، وحتى الإسرائيلية، كافية لمتابعة المباريات التي ستنطلق بعد أربعٍ وعشرين ساعة. المهمّة الحاسمة المتبقّية كانت التأكّد من أن "كلاب البطارية" المعتمدة في التمديدات صلبة كفاية والشرائط الكهربائية سليمة بما لا يُفاجئ أحداً خلال لحظة تسديد كرة خطرة أو تمريرة يمكن أن تُغيّر نتيجة مباراة.

الناس تحاول أن تغفو قليلاً بعد الغداء الخفيف، بين موجة قصف وأخرى، تعويضاً عن نقص نومٍ أو استباقاً لانعدامه المتوقّع في الليلة المقبلة. أما نحن، الصبيان الكرويّون، فنلتقي لمباراة حامية تسبق الافتتاح الرسمي لأعظم مسابقة مع خشيتين: خشية تصاعد القصف إذا اضطُرّنا لإيقاف اللعبة في لحظة درامية قد تحرمنا من الفوز المحقّق أو من إحراز تعادل نراه في متناول فريقنا الخاسر مؤقّتاً. وخشية الكثير من العرق والغبار واتّساخ الملابس والأجسام في وقت ترتفع فيه الحرارة الصيفية والرطوبة البيروتية وتتراجع كمّيات المياه المخصّصة للاستحمام والغسيل في بيوتنا. يُضاف الى ذلك أننا جميعنا مضطرون لتجنّب الخدوش والجروح التي سيكتفي الصيدلي المجاور لملعبِنا بإعطاء "صبغة اليود" الحارقة الخارقة لمعالجتها. وفي هذا ما يؤثّر سلباً على العطاء وعلى أدائنا المكافح "والرجولي" (وهي صفة كنّا نتمعّن في قراءتها في صحف يوم الإثنين إذ تروي ما جرى في مباريات البطولات الأوروبية التي اهتممنا كثيراً بها وجعلتنا ننقسم بين ليفربول ونوتنغهام فوريست، أو بين بايرن ميونخ وهامبورغ، أو طبعاً بين ريال مدريد وبرشلونة).

الوقت بطيء، والقصف صباح 13 حزيران مروّع. الطيران ضرب خطّ البسطة الفوقا خلفنا، والقوات الإسرائيلية أعلنت رسمياً بدء حصار العاصمة.
الوقت بطيء، وافتتاح كأس العالم الليلة في برشلونة مع مباراة تجمع حاملة اللقب الأرجنتين وبلجيكا، المتقنة أسلوباً جديداً سيصبح مدرسةً خاصة في اللعب، يقوم على نصب مصائد التسلّل للهجوم الخصم وإتلاف أعصابه في إضاعة الفرص وتركه يتناقل الكرة بلا طائل، ثم تنفيذ هجمات مضادة سريعة تخطف الأهداف.

يلتقي بعضنا عند وليد عيدو، والبعض الآخر في البيت القديم لآل الشامي. يستضيفنا أبو خالد صغاراً وكباراً في صالونه، وخالد يدور علينا بالعصير والبزورات. بلجيكا تهزم الأرجنتين بهدف وحيد، والفرح يغمرنا لانطلاق المسابقة بسلام. لكأننا كنا نخشى أن يُلغيها الاجتياح الإسرائيلي، أو أن تصلها بعض الغارات وتداعيات الحصار فتتوقّف.

من مشاهد الحصار 

البرازيل وألمانيا والجزائر

في حيِّنا، كما في معظم أحياء مدينتنا المحاصرة، حزبان كرويّان أساسيّان. حزب البرازيل المخضرم و"الخبير" باللعبة، وحزب ألمانيا، الشاب، الذي نشأ على مباريات مساء الأحد المنقولة ملخّصاتها من الدوري الألماني على تلفزيون لبنان، والذي يحفظ أسماء اللاعبين وأنديتهم عن ظهر قلب. على ضفاف الحزبين الكبيرين، ثمة محازبون لإيطاليا وفرنسا، ثم للاتحاد السوفياتي وبولونيا والمجر (لأسباب عقائدية على ما كانوا يردّدون، وبتكليف حزبي).

لكن ثمة مباراة لم يخطر ببال أحد مدى قدرتها على إعادة تشكيل الخريطة الحزبية بعيداً عن كلّ فرز سابق. مباراة ألمانيا الغربية، بقيادة برايتنر ورومينيغيه وهروبيش وفيشر وليتبارسكي، والجزائر التي كان اسما رابح ماجر والأخضر بلّومي أكثر ما نعرفه عنها. الجمهور غير الألماني يصطفّ بالنكاية مع الجزائر، وجمهور الألمان منقسم بين شعور بقومية عربية تقرّبه من بلد المليون شهيد، ورغبة بفوز ألمانيا تجنّبه شماته الخصوم. القصف عنيفٌ على بيروت في 16 حزيران، والتجمّع أقل من العادة في بيت عيدو، لكن المباراة مذهلة ينزل وقعها على الجميع كصاعقة، إذ تُظهر علوّ كعب الجزائريّين فتُتوّجهم بفوز تاريخي بهدفين لماجر وبلّومي مقابل هدف لرومينيغيه. ولولا خسارة جزائرية مفاجئة ضد النمسا بعد خمسة أيام ثم تواطؤ ألماني مع الأخيرة في 25 من الشهر نفسه لكانت الجزائر حكماً في الدور الثاني[2].

رابح ماجر مسجّلاً هدفه التاريخي في المرمى الألماني

غطّى صوت رصاص ابتهاج القوات المشتركة بالفوز الجزائري على أصوات القصف الإسرائيلي الذي اعتاد التراجع ليلاً قُبَيل بدء المباريات. وغطى التبريك للجزائر أو الشماتة بألمانيا على ما عداه من أحاديث على مدى أيام. واستمرّ الأمر على هذا النحو لغاية الخروج المأساوي للبرازيل أمام إيطاليا في 2 تموز، بعد عشرة أيام من بداية شهر رمضان الذي وفّر على معظم العائلات المحاصرة في بيروت بعض الوجبات والمواد الصعب تحصيلها، وحوّل السحور الى مناسبات لمواصلة الحديث عن المباريات والتحسّر على فرصها الضائعة. 
ولعلّ التحسّر على البرازيل وقتذاك كان (وما زال) من أبرز ما يمكن استخلاصه من تلك المسابقة، ذلك أن كرة القدم لم تعرف على الأرجح في تاريخها منتخباً بقوّة البرازيليّين يومها وبسحر أدائهم الجماعي ونجوميّتهم الفردية. فمنتخب زيكو وسقراط وفالكاو وسرجينيو وإيدير وجونيور وأوسكار قدّم عروضاً بديعةً الى أن فاجأه الدفاع الإيطالي بصلابته وتماسكه أمام موجات الهجوم، ثم عاجله باولو روسي بأهداف كانت كفيلة بالإطاحة به من البطولة.

التتمّة معروفة، من خروج فرنسا أمام ألمانيا في مباراة تراجيدية انتهت بإرسال الحارس الألماني شوماخر للاعب الفرنسي باتيستون الى المستشفى من دون معاقبته لا بضربة جزاء ولا ببطاقة حمراء كانتا كفيلتين بإيصال الفرنسيّين الى النهائي، وانتهاء بفوز إيطاليا، مفاجأة البطولة، على ألمانيا في المباراة النهائية للمسابقة التي تسيّدها الطليان تكتيكياً وأعادوا الى روما كأساً لم يحظوا بها منذ العام 1938.

المنتخب البرازيلي العام 1982

أبو عمار وإيطاليا والقوات المتعددة الجنسيات

ذكر ياسر عرفات أكثر من مرة بعد انتهاء كأس العالم 1982 أن الفريق الإيطالي أهدى المقاومة الفلسطينية في بيروت إنجازه، وحيّا باولو روسي تكراراً (مستبدلاً على عادته الP بالB في اسمه الأول) كأحد صانعي الفوز والإهداء. وفي الحقيقة لم يثبت أن الأمر جرى فعلاً على هذا النحو، ولَو أن تسريبات صحفية تناقلت أخباراً عن تعاطف مُعلن أو مُضمر لروسي وألطوبيلّي ولاعبين آخرين مع الفلسطينيّين، كما رُفعت أعلام فلسطينية في احتفالات إيطالية رافقت عودة المنتخب الأزرق الى بلاده حاملاً الكأس الأغلى في العالم.

على أنّ أثر ما قاله أبو عمار، بمعزل عن دقّته، معطوفاً على السلوك المُحبّب للجنود الإيطاليّين الذين وصلوا بيروت ضمن القوات المتعدّدة الجنسيات لمراقبة وقف النار وخروج المقاتلين الفلسطينيين وقيادتهم بعد الحصار، سهّل من مهمّتهم اللبنانية وجعلهم على تماس ودّي دائم مع أطفال وشبّان المخيمات الفلسطينية المنكوبة وأحياء الضاحية الجنوبية لبيروت. هناك انتشرت وحداتهم ونفّذ جهازها الطبي مهام إنسانية، كما لاعَب فريقهم العسكري-الكروي فرقاً محلّية، بما قرّبهم الى قلوب جيل جديد من عشّاق كرة القدم، سيصبحون لاحقاً طليان الهوى ويجعلون إيطاليا الحزب الكروي الثالث لبنانياً وفلسطينياً.

باولو روسي، هدّاف المنتخب الإيطالي

أما نحن، فكانت نهاية كأس العالم في تلك السنة نهاية لأفراحنا وعودة الى يوميات الحرب الطاحنة علينا، والى نقص المياه والكهرباء والطحين والهواء، وأصوات الطائرات والمدافع التي حصدت فيما حصدت آلافاً ممّن كانت المباريات الكروية آخر ما شاهدوا في حياتهم.

هكذا، انتهى صيف بيروتي تداخلت فيه أحلام كرة القدم وآهاتها بالموت والغارات الجوية، وعاد من نجا الى متابعة حياته "الطبيعية" ابتداء من الخريف. ولا أظنّنا إذ رجعنا الى المدرسة في تشرين الأول تحدّثنا عن الحصار وعن باولو روسي وبلّومي وعن خيبة الجيل البرازيلي الذهبي، ولا عن ألبوماتنا التي ظلّت ناقصة وضاعت بين كمّ من الأغراض المتراكمة، تماماً كما ضاعت في ذاكرتنا أسماء أسمهان وأولادها وغيرهم ممّن سحقتهم النيران الإسرائيلية وحوّلت بيوتهم الى مقابرهم الجماعية...

استمرّت الحياة بعد كل ذلك، وتوالت كؤوس العالم كل أربع سنوات، وها نحن بعد ستة وثلاثين عاماً نستعد لكأس عالم جديدة. نستعدّ ونتذكّر قوة ذلك الشعور الذي انتابنا في حزيران 1982. شعور أننا على قيد الحياة طالما أن بطارية سيارة جارنا تشغّل تلفازه وتشغّل معه عيوننا وآذاننا وكامل حواسنا، وترفع عنّا لدقائق تسعين الحصارَ والموت والخوف من الطيران.
زياد ماجد
نص منشور في العدد 115 من مجلة الدراسات الفلسطينية، صيف 2018



[1] سيلقى وليد عيدو وابنه خالد حتفهما في عملية اغتيال سياسي استهدفتهما في 13 حزيران 2007، أي بعد ربع قرن كامل من استضافتهما افتتاح كأس العالم في بيت أسرتهما في رأس النبع في بيروت (في 13 حزيران 1982).
[2]  عدّل الاتحاد الدولي لكرة القدم بعد ذلك من قانون الدور الأول بسبب التلاعب الألماني النمساوي بالنتيجة، بحيث فرض لعب المباراتين الأخيرتين ضمن المجموعة الواحدة في نفس الوقت.