أحدثت همجية نظام الأسد في سوريا تعديلاً
على الوظيفة المُعتادة للعزاء. نقلته من كونه سلوكاً فردياً أو مواساة اجتماعية
لذوي الشخص "المتوفّى" الى حالة يصعب اختصار توصيفها. فيها مزيج من التلاقي
الضروري لمواجهة الخوف، وفيها مقدار من الذهول ممّا يصيب أجساداً ووجوهاً نتيجة
قصفها أو تعذيبها، وفيها تضامن سياسي لمنع تحوّل العزاء نهاية مسار أو ختام مشهد
أو طقس هزيمة.
فالموت السوري لم يعُد منذ 22 شهراً وفاةً
طبيعية للعمر أو للمرض دورٌ في تحديد أشكالها وأوانها. صار موتاً مُعمّماً يصيب
عائلات أو جيران حيّ أو صفوف انتظار أمام أفران أو نزلاء مستشفى. وصار العزاء
بمصابه جماعيّاً وسريعاً مثل وقوعه المروّع، لا محلّ فيه للخصوصية الفردية ولا وقت
يكفي لاستذكار تفاصيل العلاقة بالإنسان الراحل وسيرته الشخصية السابقة لمسبّبات موته المباشر.
فكيف لِ"عزاء مجزرة" أن ينتظِم فردياً؟ وكيف لمئة شخص أردتهم السكاكين
أو البراميل المتفجّرة في ساعات معدودة أن يُحتفى بهم واحداً واحداً في حين أنهم
تماهوا وتوحّدوا في ساحة الموت وميعاده، وأن المُعزّين لا يعرفون إلا بعضهم، أو أن
فعل العزاء نفسه محفوفٌ بخطر تكرار المجزرة إياها وإبادة المعزّين؟
حوّلت همجيةُ نظام الأسد الموتَ في
أغلب الأحيان الى عمليات تقطيع أوصال جسدية لا تكتفي بإسكات القلب. فصارت المجازر
تصفيةً لناس تمتزج دماؤهم وأطرافهم على نحو قد يحول دون دقّة الإحصاء لأعدادهم.
فيمكن أن يُقام عزاء يُضيف "أرقاماً" على أرقام الراحلين لخطأ في إعادة
تركيب الجثامين، أو يحذف "أرقاماً" أُخرى مقلّصاً عدد القبور المخصّصة لاستقبالهم،
بما يُعدّل في الحالتين من "فرديّة" الرحيل ومن شخصانية الراحلين ومن
تفاصيل وداعهم. ويمكن أيضاً أن يُقام عزاء مكتفٍ بذاته، يُعزّي فيه أهلُ ضحايا
أهلَ ضحايا آخرين صرعتهم جميعاً مقتلةٌ واحدة. يتبادلون الأدوار في لحظات تفصل بين
التقبّل والتقديم، بين التفجّع والمواساة، بين الألم ومحاولة التخفيف منه،
فيُعيدون تشكيل مجتمعهم الصغير المنكوب متخطّين مؤقّتاً وظائفهم وعلاقاتهم السابقة
فيه ومتساوين في الأخذ والعطاء وفي البحث عن سبل الاستمرار...
على أن "العزاء السوري" في
مختلف مراسمه، وفي ما هو أبعد من وظائفه المتبدّلة بسبب ملابساته وخصائصه، هو اليوم
فعل مقاومة سياسية للهمجيّة. ففي إقامته رفضٌ للقتل بوصفه قصاصاً يُنزله النظام
بالمقتولين وذويهم ليُعيدهم الى حالة انزواء وخوف حتى من إشهار ما دفعوه ثمناً لتمرّدهم.
وفي إقامته إعلانٌ لموقف يُعيد التعبئة والتواصل لإكمال مسيرة حاولت المجزرة وقفها
أو وأد احتمالاتها، ولو على حساب الحميمية التي يُفترض بلحظة الوداع الفردي
احتضانها. وهو شكل آخر من أشكال التظاهر والاعتصام، وعنصر توحيد عاطفي لفاعلين
سياسيّين يُبقي ولو بالصورة أو الصوت التواصل بينهم وإن كانوا في مواقع عزاء
متباعدة أرادها القصف معزولة في أهوالها، مستكينة لحظة الدفن وبعده...
المهمّ لسوريا غداً، بعد كل هذه المآسي
والتضحيات، أن يُصبح "العزاء" الحالي المتنقّل بين مناطقها ذكرى يضمّها
السوريّون بحنانٍ واعتزاز وهم يسعون لتأسيس ثقافتهم الجديدة. تلك التي تمجّد
الحياة والمستقبل وتستذكر الماضي القريب بِكونه حقبة دُفِن فيها، الى جانب الشهداء،
الخوفُ والاستبداد مَرّة والى الأبد...
زياد ماجد