غالباً ما يتوزّع معتمِدو "نظرية
المؤامرة" على خمس فئات: من يظنّ أنه محور الكون تستهدفه مكائد الأقوياء
لحسدٍ أو لخوف؛ من يُخفق أمام التحدّيات فيدّعي معرفة ببواطن الأمور التي تسبّب
إخفاقاته؛ من يحاول الهرب من مواقف والتزامات فيبحث عن مبرّراته خارج حيّز عيشه ومسؤولياته؛
من يتقن الديماغوجيا ويسعى لاستعراض معلومات تشي بقدرته على اكتشاف مباعث
الاستهداف له أو لسواه؛ ومن يُبهجه التصرّف بوصفه مالكاً لأكثر ما يفتقده: الذكاء.
وغالباً ما يقترن جهد هؤلاء -
مجتمعين أو متفرّقين – في التنقيب عن المؤامرة وعناصرها بحملات هجاء وكيل اتّهامات
لكلّ من يخالفهم الرأي. فيكون حيناً ساذجاً لا تثقب نظرته ظاهر الأمور (وهذا أفضل
هجاء أو اتّهام يمكن الحصول عليه)، وحيناً آخر أداة للمؤامرة نفسها قد يُدرك وقد
يجهل تشغيله في سياقها، وقد يصير أحياناً بوقاً من أبواقها، أو إن كان أشد خبثاً
ومكراً، قد يصبح شريكاً مباشراً في حبكها وتصميمها.
هكذا تتطاير الاتّهامات
والتصنيفات من "صيّادي المؤامرات" ومريديهم، وتتعاظم كلّما أراد الصيادون
تكبير المؤامرة لتضخيم شأنهم وتظهير بأسهم لحظة مناطحتهم أهوالها ومنازلتهم جحافلها.
ولعلّ بعض أهل اليسار هم اليوم
أكثر من يحترف "المؤامرات" نظرياتٍ وكواليس وزعمَ مقاومة. تعينهم على
ذلك تنشئة شمولية وتربية "عقائدية" تُبيح استسهال الأحكام وادّعاء الحق
والمعرفة المطلقَين، المعطوفَين على مقدار من المظلوميّة لا يبزّهم فيها سوى بعض
الدينيين. فوق ذلك، يقدّم لهم إدّعاء "الأخلاق" والتوق للعدل والتصدّي
"للمصالح الإمبريالية" زاداً من الأحكام القيمية لا يدّعي كثر خارجهم
الاكتراث به، فيستخدمونه، كما يستخدم الدينيون الحلال والحرام، ويتصرّفون به
ذهاباً وإياباً باعتباره صالحاً لكل مكان وزمان. وإن بطلت صلاحيته أو بان الفشل
الذريع، فالشرح لا يكتمل بعيداً عن شباك المؤامرة، تكراراً.
ولا شكّ أن ما يجري منذ عقود في
منطقتنا، المكمّل بشكل أو بآخر قروناً سبقته من التاريخ الصراعي مع المحيط، لا
يفعل سوى تعزيز النظرية المؤامراتية. ذلك أن حجم المصائب والصراعات كبير، وأن اختصارها
بتواطؤ إسرائيل ورعاتها الأميركيين و"الغربيين" علينا أو بطمعهم بآبار
نفطنا وغازنا إنما يلغي الكثير من مجالات التفكير والبحث في سبل مواجهتها، ويدفع
على الدوام للقفز فوق الحدود وتجاهل ما بينها من بشر و"تفاصيل". فصارت بديهيات
العلاقات الدولية تُروى بوصفها اكتشافات لخيوط المؤامرات، وتحوّلت
"الجيوسترايجيا" (الأقرب الى دروس التاريخ والجغرافيا الابتدائية) الى مجال
اختصاص لمحلّلين و"رفاق" لا يكلّون من القبض على المؤامرات في مجالات
يعدّونها (وهي بالطبع كذلك) حيوية. وتراجع الحديث في الحريات وحقوق الانسان وكرامة
المرأة وتلوّث البيئة واستقلالية القضاء وإطلاق المعتقلين السياسيين وإبعاد العسكر
عن أمرة الدولة، ليصير في أحسن الأحوال قصوراً عن مواكبة الأولويات والقضايا
الكبرى، وفي أسوئها إمعاناً في إبعاد النظر عن مركزية المؤامرة وميادينها.
في الخلاصة، يمكن القول في
تقييم "نظرية المؤامرة" والتعامل معها في بلادنا أن ثمن "اكتشافها"
والتصدي لها قد بلغ منذ زمن حدوداً لم تكن المؤامرة إياها إن وُجدت ونجحت تحلم في بلوغها.
ولسائل أن ينظر الى خراب سوريا على يد نظام اختصاصه مواجهة المؤامرات ليعرف فظاعة
مفاعيل النظرية هذه...
زياد ماجد