تشير بعض المعطيات المتوفّرة عن
الوضع السوري الى أن نظام الأسد ينفّذ منذ شهرين خطةً جديدة، بتوجيه روسي وتمويل إيراني،
تقوم على خمسة عناصر.
الأول، التسليم باستحالة
استعادة المناطق الشرقية والشمالية في سوريا، والاستعاضة عن ذلك بالدفاع عن
القواعد العسكرية المتفرّقة المتبقّية فيها وتموينها بالطائرات لأطول فترة ممكنة
من أجل منع قوى الثورة من خلق تواصل ترابي فيها وتوحيد عمل الكتائب المقاتلة في
محاورها، وإبقاء الأخيرة في هواجس محلية ومناطقية (وتنافسيّة) ضيقة تشغلها وتستنزف
ذخائرها وتمنعها من نقل قوات الى مناطق أخرى.
الثاني، مواصلة القصف الجوّي
والأرضي البعيد المدى على المناطق التي تحرّرت بالكامل ولم يعد له حواجز أو
معسكرات فيها، بِما يجعلها لا تخرج من حالة الحرب والحصار وانتشار الدمار في مختلف
مرافقها، وبما يدفع الأوضاع المعيشية فيها الى "التعفّن".
الثالث، حصر العمليات العسكرية الهجومية
في ثلاث مناطق وحشد القوات والطاقة النيرانية القصوى لاستعادة المبادرة فيها واحتلالها
ولو مدمّرة: ريف دمشق، ومدينة حمص ومحيطها، وخط درعا-الحدود الأردنية. ويهدف هذا
الى أمرين: أ- إبعاد "خطر" المعارك عن العاصمة دمشق التي يمثّل سقوطها
سقوطاً للنظام ولو بقيت مناطق أخرى في البلاد في قبضته أو موالية له. وهذا يفترض بالنسبة
لجيش الأسد السيطرة على ريف العاصمة القريب (الذي يمثّل امتداداً عمرانياً لها) وتدمير
الريف الأبعد حيث يتجمّع مقاتلو الثورة منذ أشهر ويتقدّمون منه باتّجاه دمشق، وضرب
خطوط الإمداد المحتملة من الجنوب ومن الحدود الأردنية القريبة الى العاصمة؛ ب-
تأمين خط دمشق – حمص – الساحل بوصفه حيوياً على الصعيد العسكري ودلالة على استمرارية
النظام وتماسك "قاعدته الشعبية". ويفسّر تأمين السيطرة على هذا الخط
ضراوة هجوم الجيش وشبّيحته على حمص والبلدات المحيطة بها وما يرافق ذلك من مذابح
و"تطهير مذهبي". ويفسّر أيضاً بعض العمليات العسكرية التي يبدو أن حزب
الله اشترك بها الصيف الفائت في منطقة القصير وفي بلدات بين البقاع الشمالي اللبناني
وحمص حيث يريد النظام أن يضمن خطوط أمداد له عبر الحدود في حال تعرّضه لضغط عسكري
كبير.
الرابع، تنظيم الشبيحة والشبان
المناصرين للنظام ضمن "ميليشيات وطنية" بعد أن جرى خلال الأشهر الماضية
تدريبهم وتأطيرهم (بإشراف إيراني)، لإظهار البعد "الأهلي" للصراع والتهديد
بانفلاته وتعميم المذابح، وتقديم الجيش "النظامي" لاحقاً بوصفه ضمانة
استمرار الدولة المركزية في وجه الميليشيات الأهلية المذهبية المتكاثرة...
أما الخامس، فهو هجمة سياسية
إعلامية بلغة "جديدة" تحصر الاتّهامات السياسية لقوى الثورة والمعارضة ب"الجهادية"
وتوقف (مؤقّتاً على الأقل) الحديث عن المؤامرات الأميركية والغربية وعن إشعال
المنطقة. وهذا يعني الاكتفاء بالقول إن النظام يواجه تنظيم "القاعدة"
ومشتقاته، وإن ألوفاً من هؤلاء يتوافدون الى سوريا من دول الجوار، وإن القضاء
عليهم جارٍ وهو ضروري قبل "الحلّ السياسي". ويريد النظام ومعه روسيا
وإيران إحراج واشنطن التي صنّفت جبهة النصرة إرهابية، والتركيز على انتقاد قطر
والسعودية بوصفهما "مموّلي الأخوان المسلمين والجماعات السلفية" على نحو
يلاقي أصداء في أوساط غربيّة صارت تتحفّظ علناً على السياسات الخليجية الراعية للإسلاميين
في أكثر من دولة عربية...
في مقابل خطة النظام هذه،
الروسية الإيرانية، لا يبدو حتى الآن أن الدول العربية والغربية "الداعمة"
للثورة تردّ بشكل "مناسب". فمن الواضح أن معظم الكتائب المقاتلة تعاني نقصاً
في الذخيرة وما زالت دون دفاعات جوية أو صواريخ أرض جو تتصدّى للطيران. ومن الواضح
أيضاً أن التردّد كسمة في التعاطي الأميركي مع الوضع السوري – المنعكس على معظم
الدول الأوروبية والإقليمية - وعدم استعجال الحسم يساهم في إطالة عمر النظام
و"تشجيع" روسيا وإيران على المضيّ في دعمهما وإقامة الخطط له. وهو بذلك
يؤدّي الى إضعاف مصداقية التجمّعات السياسية الكبرى للثورة والمعارضة، وآخرها
الائتلاف الوطني، إذ يتسبّب عجزها عن تأمين السلاح للمقاتلين بتراجع تأثيرها على
أدائهم وخططهم، واضطرارها لتبنّي كل من يقاتل النظام ولو لم يكن لها نفوذ عليه. كما
يؤدّي الى تزايد نفوذ المجموعات القتالية الأكثر تجهيزاً وامتلاكاً للموارد
المالية "الذاتية"، جبهة النصرة مثالاً، بما يصبّ في طاحونة النظام الإعلامية
ويعقّد الأمور الميدانية ويسهم في "تحقيق" ما يُحذّر منه الأميركيون
أنفسهم من صعود "جهادي" صُنّف إرهابياً.
بهذا المعنى، يحقّق الممتنعون
عن تزويد قوى الثورة بالسلاح بحجّة الخوف من وصوله الى "إرهابيين" على
حدّ زعمهم صعوداً عسكرياً وتعاظماً لقوة "الإرهابيين" إيّاهم. كما يحقّق
- وعلى عكس المنطق القائل إن مزيداً من السلاح سيفاقم العنف – توسّعاً مخيفاً لرقع
العنف والقتل، ذلك أن بقاء النظام يعني حكماً استمرار القتال، والعجز أمام طائراته
يعني المزيد من المجازر، وعدم تضييق الخناق العسكري عليه وحصر تمركزه الجغرافي الى
حين إسقاطه أو فرض رحيله على رعاته يعني تمكينه من تنفيذ هجمات جديدة واقتحامات
لمناطق غالباً ما اقترنت بمذابح بحق المدنيين.
في أي حال، لا يعني الطور
الراهن الذي يبدو فيه النظام بحال ميدانية وسياسية أفضل من حاله أواخر الخريف
الماضي أن الكفّة بدأت تميل لصالحه على ما يُروّج صحافيّوه وسياسيّوه (اللبنانيون
منهم بخاصة). فهؤلاء كتبوا نفس المقالات ربيع العام 2011 حين احتلّ جيش النظام
درعا وأعمل في أهلها تقتيلاً. ثم كتبوا ذلك مجدّداً صيف العام 2011 حين احتلّت
الدبابات ساحات حماه ودير الزور وحمص وإدلب لمنع المظاهرات الضخمة التي كانت
تُنظّم فيها. ثم كتبوا الأمر تكراراً بعد تدمير حي بابا عمرو في آذار ال2012، ثم
كتبوه من جديد مطلع الصيف الفائت بعد معركة دمشق الأولى وبعد إعلان النظام عن
"استعادته" مدينة حلب. وها هم اليوم يعيدون الكتابة
و"التبشير" بقرب انتصار الأسد، مركّزين هذه المرة على التراجع السياسي
للقوى الإقليمية والدولية (المتآمرة سابقاً بعرفهم) أمام التقدّم الروسي الإيراني.
ما يجري اليوم يبدو إذن أقرب
الى تأجيل الحسم الذي بدت ملامحه بالتشكّل قبل أشهر، ويبدو بالتالي تطويلاً
لمعاناة الشعب السوري. وهذا يتطلّب من قوى المعارضة والثورة خطّة سياسية وإعلامية واضحة
وصريحة تشرح الردود العربية والدولية على طلباتها التسليحية وتبحث جدياً عن كل
البدائل المتاحة، وتقيّم الخطط الإغاثية الموضوعة للمناطق المحرّرة وتصوّب العمل
غير الموفّق فيها الى الآن، وتشن هجوماً قانونياً على سياسة الأمم المتّحدة "الإنمائية" التي تستمرّ في التعامل عبر وكالاتها في سوريا مع نظام
الأسد.
الأهمّ من كل ذلك، أن الشعب
السوري الذي حطّم الاستبداد كهالة وسطوة رمزية ومادية ولو لم ينه تحطيم آلته
تماماً بعد لا يبدو مقبلاً على وقف ثورته والاكتفاء بما حقّقه رغم الأهوال التي
يعاني منها. والنظام الذي لا يستطيع الاستمرار ولا السيطرة على بلدة أو حيّ مديني
إن توقّف طيرانه عن التحليق والقصف هو نظام ساقط لا تُفضي محاولات إنقاذه وتعويمه (رغم
مليارات الدولارات الإيرانية وأحدث الأسلحة والأساليب الهمجية الروسية) إلا الى
المزيد من المآسي ومن تأجيل ارتطامه المقبل بالأرض، وجعله ربما أكثر ضرراً وأذى...
زياد ماجد