يقدّم نشوان الأتاسي في هذا
العمل البحثي الرصين قراءةً في التاريخ السياسي والاجتماعي لسوريا عند نشأة كيانها
ثم دولتها بعد انهيار السلطنة العثمانية وقيام الانتداب الفرنسي وما رافق ذلك من
مفاوضات وانتفاضات أفضت حدوداً واستقلالاً وطنياً. ويرصد التطوّرات بين أربعينات
القرن الماضي وبدايات العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، مقدّماً محاولة هي الأولى
ربّما لكاتب سوري للخوض في تاريخ سوريا الحديث بمراحله المختلفة وصولاً الى
المرحلة البعثية فالأسدية، وانتهاءً باندلاع الثورة في آذار 2011.
أجزاء الكتاب
كحقبات زمنية وسياسية أربع
ينتظم عمل الأتاسي في أجزاء
أربعة. الجزء الأول تأسيسي، ينطلق بعد تمهيد تاريخي من أحداث النصف الثاني من
القرن التاسع عشر اللاحقة لحملة إبراهيم باشا على سوريا، ليصل الى الثورة العربية
الكبرى العام 1916. ويعرض الجزء للمتغيّرات العميقة التي طرأت على الاقتصاد السوري
وعلى ملكية الأراضي عقب الصراع بين محمد علي والعثمانيين ثم نتيجة "القتال
الأهلي" (أو المذابح الطائفية) العام 1860، وأثَر ذلك في علاقات
"الأعيان" السوريّين وتنافسهم. ويتطرّق للإصلاحات التي أدخلها
العثمانيّون، وصعود القومية التركية والردّ العربي عليها، متوقّفاً عند الجذور
الاجتماعية للقومية العربية الناشئة. ويُقفل الجزء على الحرب العالمية الأولى ثم الثورة
العربية اللتين ستُخرجان سوريا من السلطنة العثمانية المتهالكة.
الجزء الثاني يخوض في تطوّر
المجتمع السوري بين حدثَين: حدث وصول فيصل ومحاولته تأسيس دولته في دمشق ثم هزيمته
أمام الفرنسيّين وبسط سلطة انتداب الأخيرين، وحدث نهاية الانتداب وجلاء القوات
الفرنسية عن سوريا المستقلة العام 1946. وفي هذا الجزء، يعرض الأتاسي لنزعات بعض
الجماعات الأهلية والشرائح الاجتماعية خلال العشرينات والثلاثينات ولمواقف النخب
السياسية المدينية وعلاقات الأرياف بالمدن. ويُقيم مقارنات مفيدة (ومختصرة) مع
الحالة العراقية، ويتوقّف عند تكريس الحدود الجديدة للدولة الوليدة بعد استقلال
أجزاء سابقة من "سوريا الطبيعية" عنها أو ضمّها الى دول الجوار بموجب
الاتفاقات البريطانية – الفرنسية. ويُختتم الجزء مع الاستحقاق الاستقلالي والجلاء الفرنسي.
في الجزء الثالث يعالج الكاتب
أبرز المواضيع المتّصلة بالحياة السياسية السورية وبأحوال المجتمع بين ما يعتبره
"انتدابين"، الانتداب الفرنسي الآفل و"الانتداب البعثي"
المقبل العام 1963. وفي صفحات هذا الجزء تحليل للاصطفافات والتحالفات وأدوار الجيش
وبعض الأحزاب أو التيارات الرئيسية والزعامات الوطنية والمحلية. وفيها أيضاً عرض للتعدّد
السياسي والتجربة الليبرالية التي عاشت في الخمسينات قبل أن توهنها الانقلابات العسكرية
وتجربة الوحدة مع مصر ويقضي عليها استيلاء حزب البعث على السلطة.
الجزء الرابع والأخير هو
دراسة في "العصبية والدعوة والمُلك" بوصفها دعامات حزب البعث وقوام
نشاطه وتنظيمه المُفضي بعد انقلابه العسكري سيطرةً على سوريا و"قيادةً للدولة
والمجتمع فيها" لغاية العام 2011 تاريخ بدء الثورة الشعبية ضدّه. ويقسّم
الأتاسي الحقبة البعثية الى مراحل ثلاث: مرحلة محمد عمران (1963 – 1966)، مرحلة
صلاح جديد (1966 – 1970) ثم مرحلة حافظ الأسد الذي خلفه ابنه بشار (2000 – حتى
اليوم). وقد تخلّلت هذه المراحل تبدّلات في القيادة البعثية وفي الهويات المناطقية
والطائفية للضباط البعثيين، كما تخلّلتها حربا العام 1967 و1973 مع إسرائيل وجرى
خلالها اجتياح لبنان وتطوير تحالفات إقليمية مع إيران. ومع انتهاء الحرب الباردة
وسقوط الحليف السوفياتي، تبدّلت بعض أدوار سوريا الخارجية وبدأت التحوّلات
الاقتصادية داخلها، واستُبدلت لاحقاً القيادات السياسية بأُخرى أكثر ارتباطاً
بالعائلة بعد توريث بشار الحكم العام 2000. فحكَم الأخير عقداً من الزمن قبل أن
تبدأ الثورة على حكمه في أول العقد الثاني وتفتتح تاريخاً جديداً.
التاريخ السوري
الحديث في تحوّلاته وانقلاباته
نجح نشوان الأتاسي في صفحات
عمله هذا في تكثيف الكتابة لتلخيص أحداث كبرى وقعت في سوريا ومن حولها (خاصة في
فلسطين) وتحليلها، ثم النظر بموازاتها الى المجتمع السوري في تحوّلاته السياسية
وأحوال مكوّناته وأوضاعه الاقتصادية، ممّا جعل العمل في تقاطع دائم بين التاريخ
وعلم الاجتماع السياسي.
وقد حشد الأتاسي مراجع مهمّة
وحواشي غنية بالتفاصيل والمعطيات، وأفرد ملاحق تضيء على مسائل ديموغرافية وجغرافية
واقتصادية. وما أغنى سرده وتحليله هو اطّلاعه أيضاً على مذكّرات سياسيّين سوريّين
كان لهم أثر كبير في الحياة العامة السورية، من أمثال خالد العظم وأكرم الحوراني
وبشير العظمة.
كما أن اعتماده
"الخلدونية" منهجاً في مقاربة الحقبة البعثية، وفيها الأسدية، من خلال
اعتبار العصبية مدخلاً لفهم الولاءات والخصومات والتضامن داخل دوائر حزب البعث
وقيادته وداخل الطائفة العلوية التي نسّب أعداداً مهمّة من شبّانها الى القوى
العسكرية والأمنية الرسمية، وتتبّعه للتطوّرات بعد تولّي بشار الرئاسة ولغاية
انطلاق الثورة، منحا الجزء الأخير من الكتاب قيمة مضافة. ذلك أن الكتابات
التاريخية السابقة بمجملها لم تتطرّق الى الشؤون السورية بمدّتها الزمنية
المُعالجة هنا. ولا هي اعتمدت كلّ المراجع الواردة لتخوض عبرها في بحث مركّب في
الحقبة البعثية الذاهبة الى آل الأسد، إضافة الى أن لا عمل ربط حتّى الآن بين
السياق الثوري الراهن وما سبقه من تطوّرات على مدى عقود طويلة.
والأهمّ ربما أن نشوان
الأتاسي يتعامل مع التاريخ السوري بوصفه ملكاً للسوريين. فهو يخرق الحظر المُسدل
على رواية الأحداث منذ العام 1970 من خارج سيَر النظام الرسمية، أي تلك النافية
وقائع والمستبدلة إياها بأُخرى مُخترَعة أو محوَّرة لتناسب المشروعية المُراد
كسبها. وهو يُعيد الاعتبار الى مراحل من التاريخ (لا سيّما مرحلة الخمسينات) سعى
النظام بعد تسيّد البعث لطمسها والتقليل من شأن أحداثها ومدلولاتها. وهو في كل ذلك
يضيف الى المراجع العربية أو المكتوبة من مؤرّخين عرب واحداً تغطّي صفحاته المدى
التاريخي الأرحب، بعد أن كانت أعمال أسلافه ألبرت حوراني وفيليب خوري وحنّا بطاطو
وكمال ديب وآخرين معنيّة بحقبات سابقة أو متخصّصة ومتوسّعة في مراحل محدّدة.
نصّ الأتاسي يأتي بالتالي
كنصّ جديد يبني على ما سبقه، ويكمل كرونولوجيّاً الفراغات والنواقص متعرّجاً في
التحليل وفي المقارنات ليُبيّن الأبعاد الداخلية والخارجية للأحداث، وليقابل بين
الدولة والمجتمع وجدليّات علاقاتهما ونزاعاتهما في منطقة "شرق أوسطية"
حبلى بالأزمات، وفي سياق دولي من الحرب الباردة ثم من العالم الأحادي القطبية.
علم الاجتماع
السياسي
بعد التاريخ، يصحّ تنسيب هذا الكتاب
في جوانب عديدة منه الى علم الاجتماع السياسي. ذلك أن تأريخه إذ يبحث في الوقائع
والتغيّرات الكبرى في سوريا وفي الصراعات من حولها، يشتغل في الوقت نفسه على
ثنائياتٍ إشكاليةٍ داخلية بين مدينة وريف وعصبية مذهبية وأُخرى مناطقية، مبقياً
العنصر الاقتصادي ومؤدّياته الطبقية حاضرة على الدوام في التحليل. فلا تبدو
الانتماءات الأولية كيانات سياسية صمّاء أو دائمة التراص، ولا يهيمن التقسيم
الطبقي لوحده على قراءة الأحلاف والعداوات. وهذا بالطبع يُبعد التصنيفات السهلة
ويُظهر التعميمات المتّبعة في الكثير من الكتابات متهافتة علمياً.
هكذا، تبرز النخب المدنية
والعسكرية السورية بخلفياتها السياسية والاقتصادية والمناطقية والطائفية والأيديولوجية
المختلفة قبل العام 1958 مرآة لمجتمع حيوي ومتحرّك يتفاعل مع المؤثّرات الخارجية
فينصاع لها أو يتمرّد عليها أو يستفيد منها. ثم تظهر لاحقاً بعد انحسارها
وانحصارها بحزب البعث ثم بقسم منه كطبقة متماسكة، معادية للمجتمع وساعية لبناء
عصبية مهيمنة عليه.
وكما في كل تأريخ سياسي
اجتماعي، يحمل السرد من الانتقائية بعض السمات. لكن تصميم العمل وضبطه وفق خطّ
بياني زمنياً، مركَّبٍ أحداثاً وحاملٍ لإشكاليات وجدلّيات، يحمي الانتقائية ويقدّم
لها الذريعة العلمية اللازمة في كتب كهذه، فتبدو أقرب الى الأمثلة أو الحالات الدراسية.
كتابٌ للتدريس
إضافة الى ما ذُكر، يمكن
القول إن نشوان الأتاسي يُوفّر للقرّاء في صفحات هذا الكتاب مادةّ توجز دون تبسيط تاريخاً
خطيراً، ويوفّر لطلّاب العلوم السياسية ودراسات الشرق الأوسط المعاصر نصاً يُضاف
الى النصوص المختصّة بالمنطقة، مع فارقين: واحد مرتبط بكمّ المعلومات المعروضة
بسلاسة وبغِنى الإحالات الى مراجع وأعمال تؤمّن زاداً بحثياً ومعرفياً متنوّعاً؛
وآخر يستند الى تجربة الكاتب المقيم في سوريا نفسها. فالإقامة في هذه الحال شهادة
مباشرة على لحظات وأحداث جسام. وهي تُتيح كتابةً تتعامل مع ما
يتخطّى الظاهر لِتغوص في ما
يُمكن أن يقدّم تفسيرات له أو مقدّمات لمعالمه ومؤشّراته. وهي إذ تتّخذ المسافة
العلمية اللازمة من "موضوعها" وتعتمد اللغة المناسبة لعمل بحثي على هذا
المستوى، تُبرّر اعتماد الكتاب واحداً من المراجع الجامعية الممكن تتبّع أجزائها لتدريس
مواضيع شائكة ومعقّدة.
لنشوان الأتاسي الفضل إذن في
تقريب تاريخ سوريا الحديث الى متناولنا، ودفعه مرّة واحدة في الصفحات التالية ليكون
سياقاً غنيّاً من الأحداث والعِبر والأحوال المتبدّلة على مدى قرنٍ ونيّف من
الزمن. وقراءة هذا الجهد متعة وإفادة خالصة تضيء على الماضي القريب والحاضر المديد
بما يُعين على فهمهما، في لحظة سوريّة تراجيدية ستفصل حُكماً بين ما كان وما
سيكون.
زياد ماجد