غالباً ما يُضرب لبنان مثلاً كلما أراد كاتب أو معلّق أو
ناشط عربي شتم الطائفية والحكي عن مثالبها. والأمر، على مشروعيّته، يستحقّ بعض
التدقيق في تبسيطيّته وفي مقارنته بالحالات المفترَضة نقيضاً له.
فالطائفية في لبنان ظاهرة شديدة التعقيد، فيها بعض الإرث
العثماني ثم المأسسة الفرنسية، وفيها التعاقد السياسي التوافقي والأحوال الشخصية،
وفيها الإدارة العامة وبعض الاقتصاد، وفيها الروابط الاجتماعية والفولكلور
والأعياد الرسمية والشبكات الخيرية والجمعيات الأهلية والتعليمية. وفيها أيضاً - في لحظات التوتّر السياسي أو الخوف
الديموغرافي أو تصاعد المواجهات الإقليمية - تظهير لهشاشة الإجماعات الوطنية وفرز سياسي
عامودي الطابع يجعل السير نحو الصدامات سريعاً، وبكوابح معدودة،
"الخارجي" بينها في الأغلب هو الأشدّ فاعلية.
كما أن الحرب الأهلية، وما تخلّلها من صراعات واجتياحات،
فاقمت الظاهرة الطائفية وتركت في المجتمع أثراً عميقاً لجهة الفرز السكاني
جغرافياً الذي واكبه فرز إعلامي وخدماتي تكويني لرأي عام أو لشبكات انتفاع ضمن كل طائفة.
ثم كرّست سياسات ما بعد الحرب وإدارة النظام السوري وحلفائه اللبنانيين لها هذا
الأثر، كما كرّسته أحادية التمثيل الطائفي وقدرة الاستقطاب المذهبية العالية لأطراف
الطبقة السياسية.
على أن كل ما ذُكر لا يعني أن الطائفية المظهّرة بلا
حُجب والمقَوننة في لبنان والعصيّة منذ أواخر خمسينات القرن الماضي على محاولات "التخطّي"
أو "الإلغاء السياسي" هي تعبير عن أصوليات دينية أو حتى عن نزعات دينية
في المجتمع. كما لا يعني أنها أشدّ حضوراً فيه منها في البلدان العربية المحيطة به
حيث التعامل السياسي و"الثقافي" الرسمي معها يقوم على أساس نفي وجودها
وتجريم الكلام حول القضايا المرتبطة بها. والأهم ربما، أن الاعتراف بها في لبنان
لم يحُل دون قيام تجربة ليبرالية لم تشهد سجناً سياسياً أو انقلاباً عسكرياً أو
حالة طوارئ، على نقيض البلدان التي نفتها أو جرّمتها. وهذا لا يشير الى علاقة سببيّة
بين الطائفية والحرّيات، على ما كان ينظّر دعاتها اللبنانيون، لكنه يؤكّد أن
ادّعاء انتفائها أو قمعها لا يُفضيان الى إضعافها، ويتحوّلان في ظل غياب الحريات
السياسية والفكرية الى سردية "وطنية" إضافية للاستبداد.
هل مجتمعاتنا إذن مفطورة على الطائفية؟ وهل سبل التصدّي
لها بلا جدوى؟
بالطبع لا. لكن التعاطي مع ما تثيره الطائفية من
إشكاليات على صعيد الفرد والجماعة، وفي السياسة كما في الاجتماع والاقتصاد لا
يستقيم من دون بحث في خصائصها بلا "محرّمات" أو مسلّمات. وهو يقتضي
أوّلاً شرح أسبابها في سفورها كما في كبتها وإضمارها. ويقتضي ثانياً التعامل معها
بوصفها ظاهرة مركّبة ومنتشرة داخل مؤسسات المجتمع والدولة يلزم تفكيكها تعاملاً لا
مركزياً معها وتفكيكاً تدريجياً لشبكاتها. ويقتضي أخيراً، وبداهة، بناء أنظمة
سياسية ووضع قوانين تُعلي المواطنية بوصفها الرابط الأول بين الأفراد، على حساب
الانتماءات الأولية بجماعاتها الأكثرية والأقلوية...
زياد ماجد